د. شاهر النهاري
في خضم سنوات الثانوية الأولى، كنت أقطن مدينة الطائف، عالية صخور الهمة، كثيرة أحلام الشجن، فوصلت يدي رزنامة السنة الجديدة، هدية على شكل كتاب صغير أخضر، يحتوي على أوراق بوجهين بعدد أيام السنة، ورقات بتواريخ وتوقيتات النوء والصلاة، وعلى ظهورها حكايات وحكم أو طُرف أو قول مذكور، ويحيط بذا وذاك فراغات بيضاء عذراء، أغرت قلمي بتسطير بعض شطوح مراهقة ملاحظاتي الآنية بينها.
كلمات تتلاقح في شهيتي للكتابة، بتدوين بعض مجريات ذلك اليوم، والتي تخص توقيتي الفلكي أنا، بأمل أن ترتسم حروفي ذكريات لا تنسى نقوشها ولا تهدأ أصوات نواقيسها.
ذكريات أنا من يحصرها ويلاحظها ويرتبها حسب الأهمية، بمصداقية الشاهد بعد أداء اليمين، وبلا أطر ولا حدود أجعلها لسانا يحكي عن نفسيتي بذلك اليوم، نشاطي، دراستي، وما يعن على خاطري من أفكار أو ضيق، وما يشغل أفراد أسرتي من مواقف مشهودة ومناسبات، وشؤون، تتدرج من ارتداء أحدهم لثوب جديد، إلى وجبة تجمعنا، إلى نزهة، أو زيارة قريب أو صديق، إلى وعكة، إلى نصر أو خذلان، إلى مشكلة سدت بعض الأبواب والنوافذ يومها، إلى حاجة كان إلحاحها ينتابني، إلى مشاعر تحدوني ذبذباتها لأمسك بقلمي الصغير، أعصر حبره بفيض مشاعري الحية فوق بقايا صفحة من عمري، وحبل حرز أقيس به تغيراتي النفسية، وأربط به جديد تجاربي، حكايات ومغامرات وخيال وحدود بلا أطر، قد لا أستطيع فتح جميع زوايا نوافذها، فأتحول إلى ساحر أخفي بين سطورها أسراري، ليتصفحها غيري فلا يجد الأرانب والقبعات والزهور والشرائط الملونة، والعصافير!
رزنامتي كانت عزيزة حميمة غالية على نفسي، وكم كنت أحتضن أوراقها، وأبوح لها بالأكثر والأعمق، وكأنها حبيبتي، التي أسامر نبضها، ولمعة مآقيها، ولا أغوص بجميل أحلامي، إلا وهي نائمة على ساعد قلمي.
في البداية كانت مجرد لعبة تعبير ورصد، ولكنها ومع مرور الأيام أصبحت أمانة واجب يومي مقدس أقوم به حبا وغبطة وشفافية وولعا، فلا تختفي نجوم ليلي دون أن أصافح كفها، وأشرح على سماء صفحتها الكثير، أو القليل، وحسب ما يمر في ذلك اليوم، فكانت توصيفاتي مدهشة بمنمنماتها تحمل الأسماء والرموز، والأمكنة والتوقيت، والنجاح والفشل، وتطور ما اكتشفه، ويجرني معه من حدث شاطح، وحتى لو كان في تمشية مع صديق، أو نزول عقبة الهدا إلى مياه المعسل، أو إلى كبسة بخاري مكة، أو مجرد سمرة في الردف، أو الشفا أو المثناة، أو تجوال وتبضع من معه خمسة ريالات في السوق، أو اختبار مدرسي، أستعد له، أو عراك إثبات ذات في الفصل، أو حتى منظر ماشية لفتت نظري في مزرعة جبلية، أو سيل يقطع الشوارع باحثا عن درب الوادي.
لست أدري لماذا كل هذا الاتساع في الضيق، ولماذا الكتابة بين السطور، وحشد الشخوص والقلوب والغرابة في زوايا أوراق صغيرة، كان من الممكن الاستعاضة عنها بدفتر من أبو مائة صفحة، ولكني اخترت حرفية الرزنامة وتحدياتها، كون محتواها الفلكي مهيأ مريحا للبواح حينما يسهو عن ذكر اليوم والتاريخ بالهجري، والميلادي، ما يجعل الخصوصية، والقرب من زمن الحدث عند الرجوع إليه، يحقق أمانة تمثيل اليوم بجوفي وعلى ذات تكامل وثبات كينونتي، فلا أعود أتوه أو أتخيل ويتبادر إلى ذهني التماهي، وأخلط الأيام، وأرسم ذكرى اليوم مع الأمس أو بعد غد، وفي حبكة وجدانية أصبحت في حس وجودي درامية وثائقية، وكأني فيها التاريخ الحاكي، وهو يكتب سيناريو حياتي، الذي قد لا يهم أحدا، ولكنه عندي يستحيل مسرحا، يقف على خشباته جميع من صادف وجودهم حولي خلف ستائر يومه، فأنا مخرج نظرات الرقي والمصداقية، لا أتعمد تغيير النص، ولا أدفع الممثل للخروج عن جادته، ملتزما بأوجه الحقيقة، مهما كانت تداهنني بالستر، أو تحارب ضدي، ومهما حملت من علامات قوتي أو جنوني أو ضعفي.
الحاجة أم الاختراع، فلم يكن يوجد في حينها مثل ما تعج به المكتبات الحالية من مذكرات شخصية، عليها قلوب ونقوش، ولها قفل ومفتاح، ولا أرقام سرية، يستحسن أصحابها إغلاق أبواب ذكرياتهم بحرزها، ولم يكن لها لون وردي يخص الفتيات، ولا أزرق للتدليل على رجولة، ولم تكن بيننا مواقع تواصل ماسخة فاضحة مريبة تنشر الغسيل بكل ألوانه وبقعه وتشوهاته، فكانت حاجتي برزنامتي تتحقق، وبما تعودنا عليه في حياة الطيبين في نهج «الشاطرة تغزل ولو برجل حمار»، وبحمد ورضا، واكتفاء من الفرحة بما يتوافر في ممرات حياتنا، من حاجات لم تكن معقدة، ولا متحذلقة قافزة على الأسوار، فكنا متأقلمين مع أقل الموجود بجماليات الروح، وحسن تقدير فائدة الأشياء، وليس كما نعيش اليوم من رغد، يجعل أبنائنا يطلبون الغالي، والأغرب، ثم يصحون بالغد، وقد هجروه، وربما أتلفوه، ودون روابط حميمية، أو حرص ندم، أو توقف للبحث عنه بين مكبات قمامات الماضي.
رزنامتي العزيزة الجميلة، كانت أول ما يصبح بالخيرات والنور والسرور على رموش عيني، وكانت آخر من يمسيني بأنفاس نعاس عميقة، ويتمنى لي نوما هانئا سعيدا في غفوة ختام اليوم الحافل بالوهج.
كل أيام حياتي لم تكن ثابتة المشاعر بمثل تلك الفترة التاريخية، التي صفصفت في ذاتي وحكاياتي حروفا زرقاء على أوراق صغيرة يتسع ضيقها، بحب عميق يطيب لي أن أعود معه لتصفح الدقائق كلما حنت أوتار شغاف قلبي للعودة للماضي، أداعب أوتاره بأصابع بوحي، وأراقص عباراتي بين ممرات ألحانه، وأدخل ستر بيوته، أخاطب أهله، وكأن آلة الزمن السحرية تعيدني لرفوف تواريخه يوما بيوم، وحتى لما هو أدق، فكنت أكتب في الصباح كلمات، وبعد خمول كبسة الظهر أزيدها عدة جمل، وبعد المغرب أزيد رونق صفحة بدري، ولو حدث مستجد، استدعيت زوايا الضيق لأثبت جذور الأغصان، حتى تمتلئ بها الصفحة في آخر الليل، وفي مرصد فلكي لذلك اليوم، وتلك الأمسية، أجد الوقت، والحكمة، والمعلومة، وحتى منازل القمر.
الصور والمقاطع الحالية، والتي أحاول تجميعها على هاتفي، كثيرة، متشابهة، وقد تفقد دليلها بين التزاحم والتشابه، وربما أفقد معها حميمية من كنت أنا حينها، ومن كان بجواري ومن حفزني خلف العدسة، وماذا كانت أغراض مشاعر مفرداتي وحركاتي، ولماذا وكيف قمت بالتقاط تلك الحالة والبقر يتشابه علينا، ولكني وعند عودتي لرزنامتي القديمة، أفهم من أسرار الذكرى أكثر، وأستنطق الزاوية والأوان والنقاط في آخر السطر، وأتعمق في جدية الحدث، ولا أجد أسئلة تظهر على سطح عجبي، بينما أجدها كثيرة تستفزني عن كل مقطع مصور من حياتي، ربما لا يعود يعني لي شيئا، إلا بعض الوهج، وسؤال يبادر دهشتي، فمتى صورت هذا المقطع؟
نعم، ما زلت أعود شغفا لحميمية رزنامتي، وأجد فيها أجمل لحظات روعة الماضي، والحاجة، والحميمية، والحياة، التي لا تتشابه مع مرور أنفاس الآخرين، وما أروع أن يكون لك عصير رزنامة ذكريات طازج، تعود لشربه كلما زاد العتم حولك، وكلما اشتدت شموس الفوضى، تجهر العقل، وتمسح التفاصيل، سواء في خطوات مارثون حياتك المتعاكسة المسابقات، أو في عومك بين البارد والساخن، وانغماسك التام في التسارع المريع، وسط تقاطر مقاطع قنوات التواصل، التي تصيبك بالضجر، وتكدر خاطرك بسوء ما يحدث فيها من فضح وسوء للمكنون، والبعد عن احترام الواقع الذاتي حتى ولو شرح بمصداقية ودون رتوش، ودون معالم التشرد بين غياهب الصور.
تلك حياة عشتها، وعاشها أقراني، ولا أطالب بعودتها وإيقاف تسارع الزمن، ولكني أحن لواقع ستري وسري، وهذا من أبسط حقوق سني، وجيلي، ومشاعري.