سراب الصبيح
لعل اللغة ترجمت أسماء الماديات أكثر من أسماء المعنويات، لا أعرف، لكن هذا رأيي!
وحيث إن ما أروم أن أحدثك به يا صديقي؛ هو معنوي ممتد من الوعي، فإني لا أقدر -والحالة هذه- ترجمانه في اللغة، لكني سأبعثر الكلام كما يتدفق في ذهني، عله يتغربل في ذهنك ليستقر على المعنى المرام، لكني أخشى أن خلفياتنا المعرفية مختلفة فلا يتحقق ذلك!
"الخلفيات المعرفية" هذه تحديدا ما أروم أن أضع البنان عليها. ماذا أقصد بالخلفيات المعرفية؟ هو اصطلاح جئت به من عندي لأترجم ما ينطوي تحته من فكرتي، فلا أدري إن كان نظيرا للفكرة التي حملته إياها أم لا، لقد قلت لك: إن اللغة صعبة في ترجمة المعنويات، لكن مبدئيا دعنا لنتفق عليه حتى نمر إلى الفكرة.
ما أحاول أن أشرحه لك في الخلفيات المعرفية؛ هو تصور عندي أن كل إنسان يكتنز في مستودع ذاكرته فهم يختلف عن فهم الآخر إزاء المفردة الواحدة! بمعنى: دعنا لنضيق الدائرة؛ لنقترب إلى نتائج دقيقة أكثر، فسأمثل لك بشخصين لغتهم الأم واحدة، تجد الأول منهما لديه تصور عن كلمة "كتاب" هذا التصور تشكل في ذهنه من عوامل عدة، منها: الهيئة والكيفية في آن التي اكتسب بها للمرة الأولى كلمة "كتاب" وتشكلت تباعا بقية التصورات لهذه الكلمة في ذاكرته مما عرفه وعايشه فيها، ثم بات هذا التصور مكتنزا في مكان ما في ذهنه؛ هو لا يعرف أن ذهنه يكتنز هذه التصورات، ولا يستحضرها، لكنها بآلية ما تبدأ في الاشتغال كلما مرته كلمة "كتاب"، أما الشخص الآخر فله تصور مختلف كليا عن هذه الكلمة؛ ولذلك فحين يوظف واحد من هذين الشخصين كلمة "كتاب" انطلاقا من خلفياته المعرفية عنها، ليس بالضرورة أن يستقبلها الآخر كما أراد ذلك الأول إرسالها؛ لأن تصوره عنها ينطلق من خلفيات معرفية مغايرة!
هذا من جهة كأبسط مثال في وحدة اللغة وهي "الكلمة" -وبالتأكيد لن أقول حرفا؛ لأن لا معنى له-، ومن الجهة الأخرى الكلمة الواردة في المثال هي كلمة مادية، فتخيل معي لو كانت الكلمة معنوية؛ وهي الأصعب؛ لأن بالأصل لا لون لها ولا شكل، وإنما وعي في الذهن فقط، ثم تخيل لو أن ذلك ينسحب على الكلام برمة خطاباته!
فاللغة عاجزة عن التعبير عما يدور في المنطقة التي تُدرك بالوعي ولا يوجد لها نظير في معجم اللغة، وكل ما تمثله الجمل في تلك المنطقة ما هو إلا مجموع من الكلمات التي تدور في فلك الفكرة حتى ترتب جملة، لكن الفكرة نفسها لم يتلبسها اسم، فكل إنسان له خلفيات معرفية في ذهنه من مجموع تركيبه الحياتي، الذي يختلف عن الآخر، فتصوره لكلمة ما ليس بالضرورة أن يكون نفس تصور الآخر، وبالتالي حين تستخدم كلمة لأنها تخدم خلفياتك المعرفية لإيصال المعنى المرام، فإن المتلقي لا يستقبلها بتمام الصورة.
تخيل أن تقول لأحدهم "أنا جائع" تريد أن تنقل له شعور رجفة الأطراف التي تشعر بها حين جوعك، لكن ما يتبادر لذهنه شعور التصاق البطن بالظهر الذي يشعر به عند جوعه. فإذا ما سقط كثير من المعنى بين المتحدث والمستمع في خلفياتهم المعرفية، ففي أي خلفيات معرفية لأحدهما يكون المعنى الأصل والكامل؟
الحقيقة أني لا أتذكر على وجه الدقة متى تسربت هذه الفكرة إلى رأسي، لكن ما أنا متأكدة منه أنها ليست أزيد من عامين، ولا أقل من عام، وما كان مني إلا أن ضحكت حين علمت أن هذه الفكرة تدور في رأس أحد آخر، حين كان أخي في مكتبة ما يهم لشراء كتاب، قبل أربعة أشهر، فكان أن أرسل لي صورة التقطها من فاتحة كتاب يسألني عن رأيي فيما ورد فيها، والتي كانت في كتاب "اللاهوت" لعبد الجواد ياسين، يقول:
" في جميع الأحوال نحن لا نستطيع التعبير عن الأشياء إلا بشكل تقريبي، ثمة نسبة هدر عن الإرسال، تضاف إليها نسبة هدر عن الاستقبال، لا ينتج بدوره أكثر من إدراك تقريبي. لا أقول ذلك كي تفقد الثقة في معنى المعنى؛ بل كي أشير إلى سبب إضافي لعدم التعويل -كثيرا- على فكرة البرهان."