حامد أحمد الشريف
في كتابة القصّة القصيرة من المهمّ العثور على فكرة أصيلة تستحقّ الانطلاق منها واستثمارها في السرد، ويُعَدّ هذا الأمر معضلة حقيقيّة في الكتابات السرديّة على أنواعها، ففي كثير من الأحيان يكون السارد قادرًا على الكتابة ويمتلك كلّ أدواتها ولا يوقفه غير وجود أفكار مبتكَرَة تضمن لعمله الحدّ الأدنى من النجاح. سأتطرّق في حديثي اليوم عن هذه الفكرة من باب الصناعة والاحترافيّة التي تجعلنا نكتب قصّة نباهي بها وليس مجرّد حكاية لا تحمل أيّ قيمة، ولا تلبث أن تزول وتُنسى بعد وقت قصير من نشرها. كما تلاحظون، إنّنا نتحدّث هنا عن القيمة في إطار حديثنا عن الفكرة التي - يقينًا - تختلف عنها، إلّا أنّه رغم هذا التباين بينهما لا يمكننا بحال من الأحوال فصلهما عن بعضهما، فالقيمة التي نعني بها حمولة النصّ، أو الرسالة المضمّنة، أو العمق المثري على تعدّده واختلافه، يصعب فصلها ودراستها بمعزل عن الفكرة التي تعدّ هي أيضًا في أساسها قيمة مُعينة لبناءٍ سرديّ متماسك، يُراد حملها ونقلها إلى المتلقّي وإبقاء أثرها أطول فترة ممكنة؛ والقيمة هي فكرة خلّاقة تحمل مضامين معيّنة توصلها إلى المتلقّي وتُحدث تغيُّرًا ما في سلوكه، وتستديم حضورها بمقدار القناعة بأهمّيّتها وجدواها وارتباطها بحاجاتنا الإنسانيّة.
في ظنّي، إنّ اجتيازنا لهذه المرحلة المفصليّة في كتابة القصّة يعني تجاوزنا لنصف المشوار، فأغلب القصص التي نتداولها تسقط في هذه المرحلة عندما نجدها لا تحمل قيمة تستحقّ التلقّي والنقل والسرد، وبالتالي لا تنطلق من فكرة إبداعيّة تُحقّق لها هذا الأمر، وإنّما تكون مجرّد توظيف من الكاتب لإمكاناته الكتابيّة واللغويّة والبلاغيّة، في سرد سطحيّ يتكوّن من طبقة واحدة أو مستوى واحد، يقرأه الجميع بلا استثناء مهما كانت قدراتهم القرائيّة وأدواتهم الاستنباطيّة، ويتساوى أمامها القارئ العادي والناقد الملهم الذي يجد نفسه غير قادر على سبر أغوار النصّ لكتابة نصوص أدبيّة موازية، عالية الجَودة، تُظهر قيمة الأدب وحاجتنا له؛ فقصص كهذه تكون كالصعيد من الأرض إذا أصابه طَلٌّ بلّله، ولا تجد غير المور الذي يثور في وجهك إن بحثت أسفله.
إنّ إيماننا بأهمّيّة الفكرة، والقيمة المحمَّل بها النصّ، يجعلانا قادرين على صناعة قصّة متقنة، ولن يكون الأمر بالصعوبة التي نتخيّلها، فكلّ ما نحتاجه هو خلق قيمة لأيّ حكاية سطحيّة نصادفها، في حال لم نستطع استيلاد الأفكار من مخيّلتنا بعيدًا عن الواقع الذي يعدّ من أهمّ روافد القصّة؛ وهذه الحكايات الواقعيّة من الكثرة بمكان بحيث أنّنا نستطيع أن نجريها على ألسنتنا بشكل متواصل، ولا يعيقنا عن ذلك إلّا قناعتنا بأنّها لا تستحقّ أن تُروى، فهل يمكننا بالفعل أن «نخلق من الفسيخ شربات» كما يقول إخوتنا المصريّون؟!
أستطيع القول إنّنا بالفعل نملك هذه المقدرة، فكلّ حكاية ساذجة نصادفها في حياتنا اليوميّة تصلح أن تكون فكرة قيّمة ننطلق منها لكتابة قصّة رائعة. ولكن، يبقى هناك تفاوت في قيمة هذه الأفكار ومدى تأثيرها واستدامتها. وهنا تبرز الفروقات الفرديّة من حيث القدرات العقليّة والخبرات الحياتيّة التي يمتلكها القاصّ، ومدى تمرّسه في الكتابة وإتقانه النمط السرديّ، فهذه بالتأكيد ستكون لها الكلمة الفصل للخروج بقصص إبداعيّة تتفوّق على غيرها. ولكن، ما يهمّنا هنا هو الوصول إلى الحدّ الأدنى المطلوب لتدوين قصّة تحمل فكرة قيّمة. وحتّى لا نطيل أكثر من ذلك، سنشرع في إعطاء مثال بسيط يوصل الفكرة، وأظنّنا لا نحتاج لشيء بعده غير سَنّ قلمنا والانطلاق في الكتابة.
سنعمد الآن إلى طرح مثال بسيط يساعدنا على فهم طريقة استيلاد القصّة، أو صناعتها في مختبر السرديّات، بالحديث عن موقف بسيط يمرّ به أغلبنا يوميًّا، وأعني بذلك ذهابنا إلى أحد المتاجر وتبضّعنا منه، وحمل أحد العمّال مشترياتنا ووضعها في السيارة، ثمّ عودته بعد إنجازه هذه المهمّة إلى موقعه السابق. بالطبع من البديهي القول إنّ هذه الحكاية لا تستحقّ أن نرويها، مع أنّها، بمقاييس القصّة - إذا استثنينا الفكرة والقيمة - يمكن أن تكون قصّة مكتملة الأركان، كأن يقول أحدهم: «قمت مستبشرًا هذا الصباح وذهبت إلى المتجر، وتجوّلت بين أقسامه واقتنيت بعض الأغراض، ثمّ اندفعت باتّجاه المحاسب، وبعد أن سلّمته النقود قام أحد العمّال بنقل البضاعة ووضْعِها في السيارة، ثمّ عاد إلى الداخل. غادرت بعدها إلى المنزل وأنا لا أزال فرحًا مستبشرًا».
أظنّنا متّفقين على أنّ مثل هذه النوعيّة من الحكايات لا تستحقّ أن تُروى، رغم اكتمال عناصرها ونهايتها الجيّدة، لكونها لا تطرح مشكلة معيّنة، ولا تذهب باتّجاه إيجاد حلول لهذه المشكلة، ولا تسرد حدثًا مستفزًّا يخالف توقّعاتنا، بل تكتفي بإطلاعنا على حدث مبتذل يتكرّر مع الجميع يوميًّا، ويعَدّ من التسطيح بمكان روايته والتحدّث عنه، بينما يمكننا إنجاح أحداث كهذه إن فهمنا سرّ اللعبة؛ فالحكاية هنا فقدت قيمتها بسبب غياب العمق والمغزى من وراء سردها. والبشر على مرّ العصور في تناقلهم الحكايات، لا يروون إلّا تلك المليئة بالمغازي والتي تحمل رسائل معيّنة، أكانت ظاهرة أو مضمرة. كلّ ذلك سنتحدّث عنه لاحقًا... الآن نحتاج فقط لإنقاذ هذه الحكاية، والتدخّل لتأهيلها للسرد. فهل يمكننا ذلك؟!
في ظنّي إنّنا قادرون بالفعل على إنقاذ هذه الحكاية التي ينقصها فكرة جيّدة تخلق قيمة تستحقّ الحكي عنها، بدل روايتها كما هي وضمّها إلى مجموعة قصصيّة من تلك التي تخنق أرفف المكتبات دون أي فائدة تذكر من وراء قراءتها. وحتّى لا تظنّوني أبالغ، فإنّ عددًا كبيرًا من القصص المتداولة تُكتب على هذا النحو، وتعتمد على تنامي الحدث والبداية والنهاية، وتجتهد في التقيُّد بباقي القواعد من اختزال وتكثيف، وغياب العبارات التقريريّة وغير المباشرة، دون أن يتبع ذلك التفكيرُ في قيمة الحدث المروي، حيث نجده لا يستحقّ بأيّ حال روايته وسرده. وعندما تناقش أحدهم يخبرك بأنّ هناك من يحبّ هذا النوع من القصص السطحيّة، ولا يهتمّ بما يصله من ورائها، ويتجاهل أنّها وُلدت ميتة، إذ يستحيل تناقلها والحديث عنها.
إنّ الصناعة التي أحدّثكم عنها نستطيع بواسطتها إحياء القصّة وإنعاشها بخلق قيمة معيّنة يحملها النصّ، وأقصد بذلك محاولة صنع طبقات أخرى ومستويات فهم متعدّدة تجعل للنصّ قيمة تتجاوز القراءة السطحيّة، وبالتالي يمكن لأصحاب هذا النوع من القصص إعادة ترميمها، فنتقبّلها وإن كان بالحدّ الأدنى. أعتقد أنّ الأمر في المتناول لو عدنا إلى المثال المطروح، فمعالجة النصّ السابق تتطلّب استهدافنا عامل السوبرماركت بحدث معيّن يثري السرديّة ويمنح النصّ عمقًا معيّنًا يخرجه ممّا هو فيه، والأمر غاية في البساطة، إذ يكفي دفع العامل للإتيان بأيّ تصرّف لافت يخالف ما اعتدنا عليه، كأن يقف بعد فتح باب المركبة، وينظر حوله قبل وضع الأغراض والعودة إلى الداخل، أو بكاؤه في منتصف الطريق أو في أيّ موضع يمكننا رؤيته، أو ضحكه بدون سبب وبطريقة مستفزّة، أو جريه بسرعة عالية أثناء تأديته مهمّته، أو وضعه الأغراض ومغادرته بعدها بسرعة وعدم عودته إلى مقرّ عمله، أو هروبه بالأغراض، أو تلاسنه مع السائق وهو يناوله الإكراميّة ورفضه أخذها، أو بكاؤه عند أخذ المال...
يمكن الاسترسال في توقّع الكثير من الأحداث التي يقوم بها هذا العامل والتي بمقدورها أن تخلق قيمة للنصّ، وتدعو للتفكّر والتأمّل ومحاولة فهم الموقف بكلّ أبعاده، والوقوف على تعدّد مستويات فهمه؛ ويمكن أيضًا تحريك المحاسب للقيام بحدث معيّن يخلق قيمة للنصّ، كأن يترك الجهاز ويقوم بنفسه بإيصال الأغراض رغم وجود العامل، أو تسليط بصره باتّجاه الزبون بشكل لافت يبعث على التساؤل... كما يمكننا وضع السرد في يد راوٍ عليم من خارج المشهد يصف ما يحدث خلاله، وعندها يمكننا التلاعب بالحكاية بطريقة مختلفة، كأن نذكر أن العامل صفع صاحب السيارة دون أن يتبع ذلك أيّة ردّة فعل منه، ثمّ ركب سيّارته وغادر، وعاد العامل إلى المحل...
كما تلاحظون، إنّ المشهد الأساسيّ هو نفسه لم يتغيّر، فلا يزال هناك عامل يحمل الأغراض إلى السيّارة ويعود إلى المحل، إلّا أنّنا بتدخّلنا الجيّد صَنعنا حدثًا مشوّقًا أثرى الموقف وخلق له قيمة وساعدنا في كتابة سرديّة مقنعة تحتاج منّا فقط اختيار أكثر هذه الأفكار نجاعة وقدرة على إيصال قيمة أفضل من غيرها، واللعب بعد ذلك على باقي العناصر، وصولًا إلى القصّة المرجوّة. والمقصود هنا أنّنا نستطيع بالفعل خلق القيمة المضافة للنصّ وإن لم تكن موجودة في أصل الحكاية، وبالتالي توظيفها لإيصال رسالة معيّنة، وهو المعمول به في كلّ النصوص المتفرّدة التي نراها؛ فلا تصدّق أنّ النصوص السرديّة تولد هكذا بشكلها النهائي، وإلّا ما فائدة المبدع؟ ولمَ لا تتكرّر مثل هذه النصوص إلّا على أيدي هؤلاء؟ لولا أنّها صنعة تمّ إتقانها، ويستطيع أحدهم أن يخلق ألف قصّة لكنّه يتحرّى الأفكار الجديدة التي تبتعد عن قصصه السابقة، ويستخدم أدواته القصصيّة لكتابتها انطلاقًا من الفكرة والقيمة.
ولعلّي أختم هنا باستعراض قصّة عالميّة كقصة «نظرة» ليوسف إدريس، فقد تكون الحكاية في أصلها مجرّد رؤية القاصّ الفتاة تمضي في طريقها وهي تحمل الأواني فوق رأسها، فقرّر في تلك اللحظة خلق القيمة التي تحتاجها الحكاية، وأدخل عليها بقيّة الأحداث التي منحتها الثقل والريادة. وعلى أيّة حال، لا بدّ أن ندرك أنّ وصولنا إلى هذه المرحلة المتقدّمة جدًّا لا يعني انتهاءنا من كتابة القصّة المحكَمَة، فهناك أيضًا ما يمكن قوله عن باقي الأسس، وصولًا إلى الصناعة الرائعة التي ننشدها في القصّة القصيرة، وسنستكملها معكم - بإذن الله - في الحلقات المقبلة.