(يوم مثالي)
يستيقظ أحمد قبل أن تتخذ الشمس السماء مستراحاً لها، يُخرج نفسه من الفراش بخفة، فهذا اليوم يعرف بأنه في صحة جيدة ويتذكر أن المنزل أصبح ملكا له لأنه في الشهر الماضي قد أكمل آخر قسط للبنك، وأصبح المالك الوحيد لقطعة الأرض هذه حتى وإن رآها الآخرون مجرد خرابة. يُفكر متذكراً بسعادة الآن سيطرق المسمار في أي جدار يريد دون أن يخاف التعويض. إذاً هذا الذي يأويه سيظل يفعل كل يوم ولن يضطر للنوم في العراء كما كان قبل سنوات مضت طلباً للصدقة.
يخرج إلى الحديقة فيأخذ من شجرة النخيل بضع تمرات ويعتصر من ثدي البقرة بعض الحليب، ومن تحت الدجاجة ثلاث بيضات ويرفع رأسه عالياً للسماء ويقول: شكرا يا الله لما وهبت وإنا لمقصرون وهذه هي الحياة الطيبة.
يُقرر في ذلك اليوم أن يأكل بيضة واحدة فقط ويشرب الحليب بعد أن يغمس التمر فيه، ثم يلحس أصابعه ليزيل بقايا التمر ويقول: شُكراً يا الله لما أنعمت ورزقت وإنا لغافلون . ويمضي إلى الأعلى حيث مسكنه فوق حظيرة الحيوانات، يفتح النافذة ورأس الشمس يبتسم له ويدغدغ جبهته بحبٍ أمومي. وبوجهه اللامع يرفع يده ويحييها مبتسماً لانقضاء الشتاء فهو لن يضطر إلى جرف الثلج المتصلب من أمام بيوت الأغنياء كما كان يفعل كل شتاء، وذلك كي يسرق بعض الحطب المتفحم من المداخن .. لأن دفأها الآن، دفء هذه الشمس الحنون سيغذي حديقته ويرفع رؤوس الأزهار إليها. يحلق ذقنه بعشوائية من لا يعوزه الشكل يأخذ المنشفة المستخدمة بجانب المغسلة: يمسح ذقنه وهو لا يزال يبتسم بلا وعي لهذا الصباح المثالي، يلبس بدلته المعتادة مع تغيير ربطة العنق من الأزرق إلى الأسود ليبدو أكثر أناقة، ينزل الدرج بخطى متباعدة راقصة كالأرنب ، يخرج إلى الشارع يُحيي الجيران كالعادة ومن داخل جيب سترته يخرج البيضتان الناضجتان ليقدمها إلى الصبي الصغير الذي ينتظره في كل أسبوعين مرة وذلك ليلتقفها من يده ويحييه باحترام ثم يهرول في الشارع مسرعاً ليعطيها أخته الصغيرة، فاليوم كانت لها هذه الغنيمة، لأنهما عقدا اتفاقاً بينهما أن تكون البيضة أسبوعاً لها وأسبوعاً له. ولكنه عرف الآن، صحيح أنه عرف متأخراً، بل المهم أنه عرف وذلك حين سأل الصبية في الأسبوع الماضي، لماذا لا تأتيان سوياً وتتبادلان المجيء .! فأخبرته السبب ولأنه هذا الصباح وجد بأن بيضة واحدة قد تكفيه قرر أن يستغني عن البيضتين المتبقيتين ليعطيها لهما. ومن حينها وهو يشعر بأن هناك شيئاً ما قد تبدل فيه وأن عطاءه حتى وإن كانت مجرد بيضتين. لا فهي كانت أكثر في الشعور بالطبع.
والتفكير في الأمر بالنسبة له يضاعف سعادته فيجد الشمس أكثر صفرة عن ذي قبل وأزهاره لم تعد تنحني وتموت. لقد وجد في داخله دفء أبوي لهذين اليتيمين، وجد شيئا ما لم يكن يعلم بوجوده في قلبه، وهذا أصبح يساعده على المضي قدماً في حياته دون أن يتحسر لعدم قدرته على الزواج فلا امرأة ترضى بعقيم لا يمنحها الأبناء. لقد أتيا هذان الطفلان ثمرة عمله الطيب، عمله الخفي الذي لم يخبرنا به. لنعد الى روتين أحمد فهو الآن ينظر الى الساعة إنها الرابعة عصراً ليجد نفسه قد تأخر قليلاً عن زيارة والده في دار المسنين فيهرع إليه ويجده واضعاً يده على خده وعيناه مرکزتين على الساعة، ومن الخلف يقترب ليقبل رأسه ويمسح عليه ويعتذر بعينيه فهو لا يستطيع سماعه ومن عُمق نظراته تسقط قطرة ماء بلورية لامعة وترتاح على ذقنه لتظل تحدق في أحمد حتى تجف. يقوم بتجاهلها ويلعب الورق معه كالمعتاد وعيناه تخُزانه من حين لآخر وفي داخله يشكر الله كثيراً أن ما يزال لديه أب على الأقل وهذا ما كان يمنح حياته السلام .
الذي أحاول إيصاله عبر هذه القصة
هو أن المعرفة القائمة على التأمل تُشبع غرائزنا وحواسنا التي لا نكاد نمزجها ببعضها سوى في لحظة صمت عندما نراقب شروق الشمس بعد ليلة طويلة ملؤها اليأس وكأن هذا الحدث الكوني لن يتكرر بعد الآن فيصبح شروق الشمس وغروبها لا يزال معجزة.
لماذا لم تعد هذه هي نظرتنا العميقة للحياة؟
وشروق الشمس وغروبها هو فلسفتنا ؟
كان حي بن يقظان لابن طفيل يرى بأن التأمل هو أساس الحياة الطيبة وإدراك الخير من الشر. إنه لم يعرف سوى ذاته واعتزل البشر ولم يرى سوى نزواته. فمكنه ذلك من تجاوزها وكبحها ليحي بعيداً عن حفرها الثائرة دون أن يصارع طويلاً فيها.
والإنسان بطبيعته يولد وبداخله فيلسوف صغير، لا يكف عن تلمس الأرض، والتربة ومراقبة السماء، لمعرفة ما خلف الكون والنجوم والبعد الأخر.! مذ كان طفلاً يبحث عن كل شيء بحواسة، ويبتدع الأسماء ولا يزال فيلسوفاً حتى عصرنا هذا وسيظل حتى الأزل يبحث ويتأمل ويكتشف الكلمات .
ولكن ما يحدث هو أنه عندما يكبر يعتاد حواسه ويتوقف عن النظر إلى السماء كمعجزة فيندفع إلى الحياة بشراهة، ويخوض في مضمارها سباق اللانهاية وذلك لمحاولة تحقيق حلم ما أو تخليد عمل ما. وما بين وبين يسقط في نفسه اللوامة وشعلة الشر تلسعه بحرارة ويعرف الألم الداخلي فتتأكل بداخله أحلامه ويسقط في البؤرة الضبابية للعالم الوهمي، وتستريح حواسه الظاهرة، وتتفتح صنابير الأخرى الموحلة، فيتعثر بما صنعت يداه،ويتذوق طعم المشاعر الأخرى. فيدرك الغضب والحقد والأنانية والمنافسة ويصبح شرساً صعب المعشر لا يُبصر سوى هدفه، ويقفز ما بين أيامه دون أن يلقي لها بالاً، فيأكل بلا جوع، ويكاد لا ينام ويصل الليل بالنهار، فيحل أحدهم في الآخر دون راحة.
وهو على هذه الحال أي نجاح قد يصل إليه؟
لو أننا فقط ندرك ما لنا ومالم يُقدر لنا، لمكننا ذلك من تحقيق أقصى درجات الرضا والسعادة.
هنا في الحاضر فقط، وفيما نشعر به ونراه اليوم.. ونحن نعلم في قرارة أنفسنا أن كل ما يصيبنا من الله ولن يضرنا سواه.
يراودني هذا السؤال ! ماذا عن أولئك الذين يسيرون ببطء منذ الطفولة دون أن يتعثروا بالأخرين ، ويتحلون بالصبر دون تذمر فتجدهم يبتسمون دائماً لمن حولهم وكأن أكتافهم لا تعرف أي ثقل قد يرخيها وكأن أعينهم لا تعرف أي حزين قد يبكيها؟ فيتجاوزون الفشل بسهولة دون تذمر من شيء! برأيي أن القناعة التي لديهم والتي نفتقدها هي نصف الراحة وأن من يبذرها بداخله منذ الصغر ينشأ على التواضع العفوي والبساطة ولا يكاد يدرك شرور الناس لشدة انشغاله بتهذيب نفسه وتقويمها.. إن مثل هؤلاء البسطاء والقنوعين يرون في صحة الانسان كنزا لا يعوض وفي أبسط الأشياء عمق لا يُرى له قاع.
عليك ألا تنسى أبداً بأنك في وحدتك تشكل جماعة.. وأفكارك لا تأتي من عبث.
وعلى الإنسان أن يتعلم عيش حياته في ظل فلسفته الخاصة به، وهو كذلك يفعل طيلة الوقت دون أن يعي ذاته، ولكن ما إن يدركها ويتفاعل معها حتى تتغير رؤيته للأمور ويدرك في الظلام أفكاره الشفافة المنطفئة والتي ما لم يكن ليعلم بوجودها لو لم يمعن النظر، ويتمهل في فتح عينيه، ويراقب حواسه.
لا تبحث عن مخلفات الآخرين الفكرية فتأثيرها عليهم يناسبهم كما تفعل الملابس تماما ولا تتلمس دروبهم فآثار أقدامهم قد تُعثرك وتُبطئك ولن تصيب منها خيراً مهما فعلت
سر بخطاك لاكتشاف ذاتك ومحيطك فالبحيرة الخاملة والنجوم الساكنة ليست تتساوى في نظر الإنسان وليس كل ما تراه في الليل هو شالٌ أسود مرقع بالنجوم فلكل نظرته الخاصة وشعورة الخاص وهذا ما يمنحه اللذة في الوحدة.. إن حاجة الإنسان للطبيعة أشد من حاجة الطبيعة للإنسان وعلى المرء أن يتلقى تلك المشاهد الصامتة بمفرده ويتحدث عنها لذاته فيتعرف صوته ويبصر مخاوفه وينير أفكاره كي يمنح السعادة لهذه الذات وبصوته المسموع يدرك منبع ملكاته الخاصة وتقوم الطبيعة بدورها فتمتص ألمه وحزنه الذي ما طفق يتسرب منه إلى كل ما يحيط به
فالإنسان هو مالك ذاته ولكي يحيا حياة طيبة عليه أن يكون فاضلا في عقله وأخلاقه وأن يمنح تلك الذات حق التأمل والتفكر في كل ما يحيط به ليتمتع بصغائر الأمورويمنح الشكر لكل ما يراه ويشعر به.
** **
- عُلا الحوفان
Twitter: @ola29x