د. تنيضب الفايدي
سوق المدينة (المناخة) أحد الأماكن ذات العبق التاريخي المرتبطة بالعهد النبوي، يقع غربي المسجد النبوي ويبدأ شمال مسجد المصلى، وعرف بالمصلى لأن في موضعه كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي صلاتي العيد والاستسقاء. تاريخ المدينة لابن شبه (1/ 135) والسمهودي في وفاء الوفا (3/ 26) ويمتد إلى القرب من ثنيّات الوداع شمال المدينة المنورة قديماً، أي: يحدّ سوق المدينة من الجنوب مسجد المصلى ويمتد حتى شرق جبل سُلَيْع (باب الكومة) وقد اشتهرت المناخة كذلك بأن جزءاً منها وهو الجزء الشمالي الأقرب إلى ثنية الوداع كان مركزاً لمسابقة الخيول، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحضر أحياناً، وقد بني في موقع السباق مسجد يسمى مسجد السبق (قد أزيل حديثاً)، فعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل التي قد أضمرت من الحفياء (في الشمال الغربي لجبل أحد)، وكان أمدها (نهاية السباق) ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق (أي: مسجد السبق) وأن عبد الله بن عمر كان ممن سابق بها. رواه البخاري، وقد اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم سوق المناخة للمسلمين ما بين المسجد الذي سُمي لاحقاً بمسجد السبق ومسجد المصلى، وذلك بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ ليخلصهم من سيطرة اليهود على الاقتصاد في المدينة المنورة، وبقي هذا السوق صامداً - كموقع- حتى وقت قريب ويعرف أهل المدينة حدود ذلك السوق حتى وقت قريب، حيث تبتدئ حدودها الأصلية لهذا السوق من مسجد المصلى إلى قلعة الباب الشامي (والقلعة كانت على جبل سليع باب الكومة وقد أزيلت)، وأصول هذه الحدود قديمة، فقد روى ابن شبة في تاريخ المدينة المنورة (ص 304) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب قبة في موضع بقيع الزبير فقال: هذا سوقكم، فأقبل كعب بن الأشرف فدخلها وقطع أطنابها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا جرم لأنقلنها إلى موضع هو أغيظ له من هذا»؛ فنقلها إلى موضع سوق المدينة ثم قال: «هذا سوقكم لا تتحجروا ولا يضرب عليه الخراج». وفي رواية أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني قد رأيت موضعاً للسوق أفلا تنظر إليه؟ فجاء به إلى موضع سوق المدينة، قال: فضرب النبي صلى الله عليه وسلم برجله، وقال: «هذا سوقكم فلا ينقص منه ولا يضربن عليه خراج. رواه ابن ماجة». ولم تذكر المصادر حدوداً معينة للسوقأو مساحة محددة بالضبط، كما أنه لا توجد مبان بهذا السوق وإنما هو فضاء يحضر التجار إليها صباحاً، ومن سبق إلى موقع وضع بضاعته فيه ويتاجر إلى نهاية اليوم، حيث يحمل متاعه ليعود في اليوم الثاني، كما لا توجد له أبعاد من حيث الطول أو العرض في أول إنشائه غير أنه محدود عند إنشائه بمواقع فقد ورد عن عبد الله بن محمد قال: «كان الراكب ينزل سوق المدينة فيضع رحله، ثم يطوف بالسوق ورحله بعينه يبصره لا يغيبه عنه شيء» وفاء الوفا للسمهودي (2/ 688).. ويظهر من هذا بأن مساحة السوق كانت متوسطة بحيث يرى الزائر ركبه. ثم انطلق هذا السوق مع دور السكن في العصر الأموي في عهد هشام بن عبد الملك، وظهرت الشوارع التجارية لتسهيل حركة الأفراد وحركة البضائع، كما نظمت فيه الدكاكين ليكون سوقاً ثابتاً. وقد ذهب أحد الباحثين إلى تحديد سوق المدينة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: «يحده شمالاً ثنية الوداع الشامية وقد بنت عليها الحكومة مسجداً يعرف بمسجد الثنية، ويحده جنوباً مسجد المصلى (الغمامة) الذي أسسه عمر بن عبد العزيز - رحمه الله- ثم بناه العثمانيون وتم تجديده في العهد السعودي، ويحده شرقاً مشهد مالك بن سنان -رضي الله عنه - وقد أدخل في الحرم وعلى بعد خمسين متراً تقريباً إلى الشرق من سور الحرم الغربي الجديد، وأشار في الهامش إلى أن المسافة بين حدي السوق الشمالي والجنوبي تساوي تقريباً ألفاً ومائتين وخمسين متراً. وقد سُميت سوق المناخة بأسماء متعددة منها: سوق المدينة، بقيع الخيل، سوق المصلى، سوق البقيع، سوق البطحاء، سوق الزوراء. موسوعة مكة المكرمة والمدينة المنورة (2/ 547).
إنه مكان سوق المدينة ليس أيّ مكان.. إنما هو مكانٌ اختاره صلى الله عليه وسلم وخطّه سوقاً للمسلمين - فداه أبي وأمي وكلّ غال و نفيس - بالحبيبة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبّها في قلب كلّ مسلم و مسلمة..
أما الكاتب فإن حبّ المدينة قد أشعل كامل فكره:
إني كتمتُ حديثَ ليلى لم أُبِحْ
يوماً بظاهره ولا بخفيّهِ
وحفظت عهد ودادها متمسكاً
في حبّها برشاده أو غيِّهِ
ولها سرائرُ في الضَّميْرِ طَوَيْتُهَا
نَسِيَ الضميرُ بأنَّهَا في طَيِّهِ