عطية محمد عطية عقيلان
يروى أن الشاعر العباسي المعروف أبو نواس الحسن بن هانئ، كان في مجلس الخليفة هارون الرشيد وكانت هناك جارية اسمها خالصة، وقد تزينت بالجواهر والحلى، وكان ينشد الشعر للخليفة ولكن لم يوله الاهتمام، وانشغل بجمالها وأهداها عقداً، وعند خروجه وهو في حالة من الزعل والحزن، كتب شاعرنا على باب الجارية هذا البيت:
لقد ضاع شعري على بابكم
كما ضاع عقد على خالصة
فلما قرأتها خالصة، زعلت وشكت للخليفة ذلك، والذي استدعى أبو نواس ليوبخه ويعاقبه على فعله، ولكن شاعرنا قبل دخوله، غيّر حرف العين إلى همزة، لتصبح:
لقد ضاء شعري على بابكم
كما ضاء عقد على خالصة
فلما سمعها الخليفة، أعجب من حسن وسرعة وحكمة تصرفه، وأجزل له في العطاء، مما دعا أحد الحاضرين بالقول: «هذا الشعر قلعت عيناه فأبصر»، وسيرة أبو نواس، مليئة بالأحداث والحكايات والتقلبات، زاد من سعة اطلاعه وثقافته، كثرة تنقلاته من الأهواز إلى البصرة ثم الكوفة، وبادية بني أسد وبغداد ودمشق والفسطاس، وقد شاع في عصره التنوع والتعدد الثقافي، وانتشار الكتب والحرية الفكرية، ولم يقل الشعر إلا بعد أن قرأه وتمكن منه، حيث يقول «ما ظنكم برجل لم يقل الشعر حتى روى من دواوين ستين امرأة من العرب منهن الخنساء وليلى الأخيلية، فما ظنكم بالرجال» واشتهر بالمجون في شعره ووصف الملذات والخمر، وقد عرف بشاعر «الخمر والمجون»، لم يكن شاعراً تقليدياً، بل كان ذكياً ومجدداً، وبديع المعاني، وتأثر بالفلاسفة وأقوالهم، وامتاز بالأسلوب السهل الممتنع، لم يلتزم بالقوانين والآداب السائدة في عصره، وفي دفاعه عن نفسه عندما أراد هارون الرشيد ضرب عنقه لمجونه، قال يا أمير المؤمنين، «إن الشعراء يقولون مالا يفعلون»، فعفا عنه، وقد نظم كل أنوع الشعر بين الغزل والمدح والحكمة والرثاء، بل إنه من أوائل من قال شعر الكوميديا.
وقد أعلن توبته وإقلاعه عن الملذات، واتجه إلى الزهد والرجوع إلى طاعة الله، وقال أجمل الأبيات وأشهرها حتى يومنا هذا في طلب المناجاة والعفو والمغفرة من الله، والتي أبكت الإمام الشافعي عند سماعها، وهي:
يا رَبِّ إِن عَظُمَت ذُنوبي كَثرَةً
فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ
إِن كانَ لا يَرجوكَ إِلّا مُحسِنٌ
فَبِمَن يَلوذُ وَيَستَجيرُ المُجرِمُ
أَدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرتَ تَضَرُّعاً
فَإِذا رَدَدتَ يَدي فَمَن ذا يَرحَمُ
ما لي إِلَيكَ وَسيلَةٌ إِلا الرَجا
وَجَميلُ عَفوِكَ ثُمَّ أَنّي مُسلِمُ
خاتمة: جمالية نفس شاعرنا وإبداعه وسرعة بديهته وكذلك مجونه.. كل هذا كان من ضمن محطات حياته المتقلبة فكرياً ومكانياً، والتي انتهت بطريق الهداية والتوبة، حيث توفي وهو بالخمسينيات من عمره، وبقي كأحد أشهر الشعراء العرب، وشيدت مكتبات وشوارع باسمه، يقول طه حسين «على أنّ من الحق أن نعرف لأبي نواس شيئاً غير هذا الفسق والإغراق في المجون، وهو التوفيق بين الشعر وبين الحياة الحاضرة. بحيث يكون الشعر مرآة ًصافيةً تتمثّل فيها الحياة»، وقال الجاحظ «لا أعرف بعد بشار بن برد، مولداً أشعر من أبي نواس»، وسيرة الشاعر أبو نواس، هي مفيدة لنا، بالانشغال بأنفسنا، وعدم الحكم على الآخرين، فلا نعلم خوافيهم وخواتم أعمالهم وحياتهم، يقول شاعرنا:
فقلْ لمنْ يدَّعِي في العلمِ فلسفةً
حَفِظْتَ شَيئاً، وغابَتْ عنك أشياءُ