مشعل الحارثي
الاستعراب في لغة المعاجم والقواميس اللغوية يعني صار دخيلاً في العرب وجعل نفسه منهم، ومنه العرب المستعربة ويعني كل أجنبي عالم بلغة العرب ويهتم بدراسة لغتهم وعلومهم وفنونهم، وقد جاءت حركة الاستعراب بعد الاستشراق لتعكس الطابع الإيجابي في التركيز على المعطى الثقافي الصرف في التأثر والتأثير والخروج من مفهوم الاستشراق الغربي الملتبس الذي كان يحمل في الكثير منه أدوار سلبية وأهداف سياسية مشبوهة تسعى لتشويه صورة العرب والمسلمين رغم أن جزءاً من الاستشراق كان منصفاً وأكثر إيجابية وساهم في حفظ الكثير من تراث العرب الضائع.
ومن وجوه الاستعراب الإيجابية الاستعراب الصيني الذي له رواده ورموز في تاريخ الصين الحديث كالأستاذ والعالم المسلم محمد مكين الذي كرس حياته لتعليم اللغة العربية وأنشأ قسم اللغة العربية في كلية اللغات الشرقية بجامعة بكين وكان رئيساً له، وقام بترجمة معاني القرآن الكريم، ومنهم البروفيسور الصيني (تشونغ جي كون) أستاذ اللغة العربية في معهد اللغات الأجنبية بجامعة بكين وصاحب موسوعة الأدب العربي باللغة الصينية الذي اختارته جائزة الشيخ زايد ليكون شخصية العام 2011م والذي يقول: إن الحضارتين العربية والصينية تتشابهان في الكثير من الخصائص وتواجهان تحديات متشابهة وهذا ما يحفزه على بذل جهوده لتدعيم حركة الاستعراب النشطة في الصين لتقريب العرب بصورتهم الحقيقية إلى جمهور متعطش للتعرف إليهم وابتداع سبل جديدة للتعاون معهم.
ويضيف بأن لدى الثقافتين العربية والصينية خصائص مشتركة تميزهما ولكلاهما تاريخ طويل وحضارة عريقة،الحضارة الصينية التي تعود لأكثر من خمسة آلاف سنة، وكذلك العربية التي تضرب في أعماق التاريخ إلى ما قبل الإسلام، وكما يقول أرنولد توينبي في (قصة الحضارة) إن الحضارة الإنسانية بدأت في بلاد العرب ضمن مثلث حضاري هو وادي النيل ووادي الرافدين وساحل البحر الأبيض المتوسط الشرقي حيث نشأت الحضارتان الكنعانية والفينيقية وهو ما يقوله أيضاً فليب حتي في كتابه (تاريخ الأدب) إذ يقرر أن العرب لم ينشئوا امبراطورية مترامية الأطراف فقط، بل أنشأوا ثقافة إنسانية وهذه الثقافة يقتبس ويتشرب منها أبناء الحضارات الأخرى في محيطها، فالعرب هم الذين اخترعوا الحروف الابجدية وبعد ذلك أخذها عنهم اليونان ونقلوها للأوروبيين وهذا واقع يشابه الحضارة الصينية التي أثرت فيما حولها من حضارات اليابان وكوريا وفيتنام.
وقد تم التأثير العربي والصيني في الحضارات الأخرى خلال القرون الوسطى عندما كان الغرب يعيش في ظلام حالك، فمثلت الحضارتان العربية والصينية منارة للشعوب تضيء على طرفي طريق الحرير وتسطعان بأنوارهما على العالم كله، ففي بغداد كان هناك بيت الحكمة وفي الشرق الأقصى أيضاً كانت هناك موائل عديدة للحكمة أخذ منها الكوريون والفيتناميون واليابانيون.
والمتتبع للعلاقة ما بين دول شرق آسيا مع الدول العربية يجد أنها علاقة وثيقة وممتدة منذ عشرات القرون بدأت عن طريق التجارة وتعززت بشكل أكبر مع تتالي موجات الفتوح الإسلامية ودخول الإسلام إليها ومنها جمهورية الصين التي دخل الإسلام إليها قبل أكثر من 1300 عام ميلادي، وكان أول مبعوث إسلامي وصل الصين، في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه، حيث أرسل مبعوثاً إلى مدينة شنغهاي لزيارة الإمبراطور الصيني آنذاك، وما تلا بعد تلك المرحلة من تطورات تاريخية في العصور المتعاقبة حتى عهدنا الحاضر.
وعندما زار ولي العهد الأمير عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود (الملك فيما بعد) رحمه الله جمهورية الصين الشعبية عام 1419هـ وضمن برنامج الزيارة المعد بهذه المناسبة قام بزيارة لمقر الجمعية الإسلامية الصينية في بكين واستقبله فيها نائب رئيس الجمعية ونقل له تحيات وسلام مسلمي الصين، باسم (عشرين مليون) مسلم، ومن ثم أعطى معلومات عن الإسلام في الصين، وأحوال المسلمين فقال: إن في الصين (34) ألف مسجد، وما يقارب (45) ألف إمام، وعشر كليات إسلامية، كما أن عدد المدرسين - بما فيهم من يدرّس في المساجد- يزيد على عشرين ألف مدرّس، وفي كافة الصين ما يزيد على (422) هيئة ومنظمة إسلامية.
وفي هذا الإطار وللإنصاف يجب أن نشيد هنا بمركز البحوث والتواصل المعرفي بالرياض الذي يرأسه الباحث القدير الأستاذ الدكتور يحيى باجنيد وما قدمه منذ تأسيسه رغم عمره القصير من جهود حثيثة وملموسة في هذا الجانب منها عقد أول مؤتمر يجمع المستعربين الآسيويين من (18) دولة آسيوية في عام 1440هـ، وإصداره مجلة الاستعراب الآسيوي الدورية عام 1441هـ لتكون منصة للآسيويين لاستعراض جهودهم في خدمة العربية وتراثها وتاريخها.
وكل هذا وما سبق ذكره يدفعنا وفي هذه المرحلة المفصلية من تاريخ العالم لمضاعفة الجهود وزيادة الاهتمام بهذا الجانب البيني بين البلدين المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين والدول الآسيوية بصفة عامة وبما يعزز فرص تعميق التواصل بين الشعبين وزيادة أواصر التبادل الثقافي والعمل على حماية التراث الإنساني وبمشاركة العديد من الجهات الرسمية والجامعات والمراكز البحثية والمهتمين بتطوير العلاقات العربية الصينية والحرص المستمر على عقد وتنظيم العديد من اللقاءات والمؤتمرات الدورية لخلق فضاء ثقافي آسيوي مشترك والارتقاء به نحو مستقبل أفضل وأكثر عطاء وإيجابية.