محمد سليمان العنقري
ما زال صندوق النقد الدولي يحذِّر من تباطؤ كبير سيضرب الاقتصاد العالمي في العام القادم، بل توقّع أن ثلث دول العالم ستُصاب بركود وأن الشعوب بأغلب الدول ستبدأ تشعر بالركود أكثر من العام الحالي، فتداعيات جائحة كورونا ما زالت قائمة وتبعتها الحرب الروسية الأوكرانية لتتفاقم مشكلة الاقتصاد الدولي بارتفاع كبير بمعدلات التضخم وانقطاعات بسلاسل الإمداد ومخاوف من حدوث أزمة غذائية عالمية ستعصف بالدول الفقيرة وقد حذَّر من ذلك أمين عام الأمم المتحدة فالتطورات الدولية المتسارعة بالمسرح السياسي أصبحت هي العبء الأكبر على الاقتصاد العالمي وتحد من استقراره بنسبة مرتفعة ولا يوجد حلول بالأفق لهذه الأزمات فالصراع بات وجودياً بين القوى الكبرى وجميعهم يبحث عن مكانة واسعة بالعالم تحت شعار تعدد الأقطاب وأصبح السياق بين تلك القوى الكبرى على كسب الحلفاء بمختلف القارات وكأن العالم يتهيأ لانقسامات جديدة على مبادئ مختلفة عن فترة الحرب الباردة قبل أن يتفكك أحد قطبيها الاتحاد السوفيتي.
فالهيمنة الغربية تمر بأصعب اختبار لها وهي مهددة بالزوال وعبر عن تلك المخاوف توني بلير رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، فالغرب بقيادة أمريكا بات أكثر استشعاراً لما يواجهه من خطر يهدِّد مكانته عالمياً ولذلك يتحرك بخطوات سريعة باتجاه منافسيه فلم يدخر أي عقوبة إلا وأصدرها ونفذها فورياً تجاه روسيا بحجة إرغامها على الانسحاب من أوكرانيا رغم أن أثر العقوبات كان بالغاً بتضخم كانت دولهم أول المتضررين منه وكذلك حاولت أمريكا استفزاز الصين بإشعال أزمة لها مع تايوان قد تتطور لمواجهة عسكرية إلا أن الصينيين كانوا مدركين لخطوة أمريكا عندما أرسلت بيلوسي رئيسة مجلس النواب لزيارة تايوان وكأنهم يرونها دولة مستقلة وليست جزءاً من الصين التي تعاملت بحكمة مع هذه الاستفزازات وفوتت الفرصة على واشنطن بتحقيق مرادها من هذه الاستفزازات، بل إن من ينظر حتى لبعض المواقف التي قد يظهر أنها ثانوية وبسيطة مثل هجوم الصحافة الأوروبية والأمريكية على قطر خلال استضافتها لنهائيات كأس العالم ومحاولة تسييس مشاركات منتخباتهم عندما أرادوا وضع شعارات تدعم المثلية وتم رفض هذه التصرفات رغم أنه يمنع في الرياضة إقحام المواقف السياسية فيها إلا أن الغرب لم يلتفت لذلك وقاموا بعدة محاولات لرفع شعارات المثلية كان من بينها ما وضعته وزيرة داخلية ألمانيا على يدها وظهر بلقطة لها بالمدرجات بمباراة لمنتخب بلادها الذي خرج من الدور الأول فكان تصرفاً مستهجناً من وزيرة يفترض أن تكون قدوة باحترام أنظمة الدول. ولم يكتف إعلامهم بذلك، بل انتقد حتى طريقة الاحتفاء ببطل الكأس عندما تم وضع «بشت» على كتفي ميسي كابتن منتخب الأرجنتين بطل العالم ليكون ذلك نوعاً من التكريم بحسب العادات العربية الأصيلة لكن إعلام الغرب استهجن ذلك رغم أن الفائز منتخب الأرجنتين من أمريكا اللاتينية أي ليس أوروبياً لكنهم نصبوا أنفسهم أوصياء على ثقافات الشعوب ففي تصرفهم دلالة ورمزية إلى مدى عنصريتهم وتعاليهم على الشعوب وغيرتهم من أي نجاح تحققه دولة خارج قارة أوروبا ومن يتحالف معها ويشاركها نفس العقيدة والفكر والثقافة فهم يرون أن التطور والتقدم لا يحق إلا لهم فقط ويعتقدون أن عجلة الزمن توقفت عند تفوقهم اقتصادياً وعلمياً وغير ذلك على العالم واستفاقوا على حقيقة مغايرة فكثير من الدول الناشئة تطورت واقتصاداتها تنمو بمعدلات عالية وأصبحت جاذبة للاستثمار وأسواقها واعدة.
فما يشهده العالم هو صراع حقيقي يتمدد من الاقتصاد للثقافة للعقائد والمبادئ والعسكرة مما ينذر فعلاً بأننا في حالة حرب كونية لا أحد يعرف مآلاتها فاستمرار الحرب في أوكرانيا وتبعاتها بالتضخم وأزمات سلاسل الإمداد والغذاء عالمياً ستقود دول عديدة من الفقيرة تحديداً لاضطرابات تهدد استقرارها فلن تتمكن من الصمود طويلاً بوجه غلاء السلع عالمياً وندرتها كما أن بعض دول أوروبا قد تواجه عدم استقرار إذا ما استمرت أسعار الطاقة مرتفعة لديهم فلا يمكن حل هذه الأزمة إلا بالعودة لاستيراد الغاز الروسي وهذا الأمر أصبح معقداً وصعباً بسبب العقوبات على روسيا وأيضاً توجه الأخيرة لأسواق جديدة في آسيا ومما زاد من مشاكل أوروبا أنها اعتمدت على أمريكا بتلبية احتياجها من الغاز لتعويض ما فقدته من صادرات روسيا لها لكن الأسعار كانت باهظة جداً وفوق قدرة مصانع أوروبا على التحمل ولتكمل أمريكا نفسها الضغط على اقتصاد أوروبا عندما أصدرت قانون الحد من التضخم الذي إذا لم تحل الخلافات الناجمة عنه والتي تدمر صناعات أوروبا بقتل تنافسيتها مع الصناعة الأمريكية فإن ذلك سيؤدي لحرب تجارية بين أكبر حليفين بالعالم وهو ما ألمح له وزير المالية الألماني وكذلك نظيره الفرنسي فكل ما يجري بالعالم من مواجهات وخلافات إضافة للنهج المتشدد والمتسارع بالسياسة النقدية لأمريكا التي لها تأثير دولي كبير برفع تكلفة التمويل وكذلك زيادة بقوة الدولار مما سيؤدي بالفترات القادمة لمزيد من الضغط على الاقتصادات النامية وكذلك المحدودة الدخل والإمكانيات ومع ارتفاع الأسعار عالمياً فإن تفشي الركود التضخمي بتلك الدول وارد جداً وسيكون له انعكاس سلبي كبير على استقرار تلك الدول.
سيدخل العالم عام 2023 بعد أقل من أسبوعين لكن مرحلة جديدة ستفرض نفسها بعد عام من التشدد بالسياسات النقدية والمالية دولياً وانقطاعات بسلاسل الإمداد وتضخم لا يظهر له حل جذري بسبب استمرار الحرب على أوكرانيا فكل آثار وتبعات ما حدث في الثلاثة الأعوام الماضية وخصوصاً العام الحالي ستظهر نتائجها العام القادم وسيكون اختباراً حقيقياً للنظام الدولي ومدى القدرة على تدارك المخاطر والعودة لطاولة المفاوضات والتفاهمات لإزالة التحديات التي تواجه العالم وإلا فإن عدم الاستقرار والاضطرابات ستكون سمة حاضرة بالدول الفقيرة وقد يدفع العالم فاتورة باهظة إذا لم يتم منع الوصول لمثل هذه التداعيات سريعاً.