عبدالوهاب الفايز
فعلا، لم تكن بطولة تقليدية عادية..
بطولة بدأت بتحديات واتهامات باطلة، وانتهت بالكثير من الرموز والدلالات والإثارة الرياضية.
والأهم، انتهت بتتويج البطولة كأفضل وأبرز المناسبات الرياضية الترفيهية، وتشكر الحكومة القطرية التي جعلت من هذه البطولة رحلة متعة وإثارة، وسخرت إمكاناتها لتسهيل الوصول إلى المتعة الرياضية، ولن نقدم شهادة لإخواننا في قطر، فشهادتنا مجروحة لأننا نشهد لأنفسنا.
لقد كانت فرصة تاريخية للحكومة القطرية وللشعب القطري لتقديم بلادهم للعالم، وأيضا تقديم عادات وتقاليد شعوب الخليج والدول العربية للعالم، وفي احتفال التتويج للبطولة كانت رسالة رمزية ذكية من سمو أمير قطر الشيخ تميم حين ألبس ميسي البشت الخليجي، وهذه المبادرة من سمو الأمير سوف تُوثّق صورة البشت (رمز الزي الرسمي في الخليج)، وتضعه على خارطة الأزياء الرئيسية في العالم، وستكون صورة تاريخية شادة وجاذبة للأجيال الجديدة حول العالم.
أيضا مما حملت الحفلة الختامية من رسائل تلك المشاهد الإنسانية الجميلة التي جمعت اللاعب الأرجنتيني ميسي مع زوجته وأطفاله، والأجمل أن أغلب لاعبي المنتخب الأرجنتينى والمدرب كانوا مصحوبين بزوجاتهم وأطفالهم. وهذه رسالة مهمة تحمل المضامين التي تؤكد أن الأسرة لها مكانتها لدى شعوب العالم، وستكون رسالة مزعجة لمناصري الحركه الليبرالية الغربية التي تناضل لإلغاء الأسرة الطبيعية والتي حاولت اختراق البطولة لبسط شعاراتها ورموزها.. ولكنها فشلت.
ولا ننسى القول إن فوز الأرجنتين بكأس العالم يقدم لهذا البلد فرصة للفرح، فالقيادة السياسية والنخب الأرجنتينية كانت بحاجة ماسة لهذا الفوز حتى تشيع مشاعر بهجة وطنية تأخذ الناس من مرارة الوضع الاقتصادي القاسي الذي يعيشونه. كما انتصرت بالرياضة.. الأرجنتين تحتاج أن تنتصر على نفسها، تنتصر على خوفها من التخلص من مرض الاستدانة من المؤسسات المالية الدولية. الأرجنتين بلاد الثروات البشرية والطبيعية ظلت مرهونة لنصف قرن للمؤسسات المالية الدولية ولصندوق النقد والبنك الدولي. فالأرجنتين مازالت تواجه ظروفًا اقتصادية صعبة، إذ تأتي في قائمة الدول الأعلى في معدلات التضخم، حيث تجاوزت المعدلات 70 %. وتجد صعوبة في إمكانية الوصول إلى رأس المال الدولي رغم أنها ثاني أكبر اقتصاد في أمريكا الجنوبية، ومدينة بأكثر من 40 مليار دولار لصندوق النقد الدولي.
والشعب الأرجنتينى يعاني منذ عقود من الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي جعلت مظاهر الاحتجاجات العنيفة في الشوارع أمراً اعتيادياً. والبلد انزلقت إلى أزمة اقتصادية في عام 2018 ولا تزال بعيدة عن التعافي التام. ويعيش ما يقرب من 40 % من الأرجنتينيين تحت خط الفقر. والأزمات السياسية المتلاحقة و(الافراط في الاستدانة الخارجية) أدخلت البلاد في ركود اقتصادي أطول من أي دولة، فهي في حالة ركود منذ الخمسينيات، وفقا للبنك الدولي.
الديون محبطة نفسيا واقتصاديا للدول، وشهية الاستدانة إذا انفتحت تبقى مرضًا مزمنًا يصعب الخلاص منه. الاستدانة أمر ايجابية إذا ذهبت للاستثمار، وتوفرت فيها آليه تسديد الديون المستحقة.
الأرجنتين لم تشهد سوى فترات ازدهار محدودة. في منتصف التسعينات عاش الاقتصاد الأرجنتيني عصره الذهبي، وحقق معدلات نمو كانت الأكبر بين دول المنطقة. هذه الطفرة التي أطلق عليها الخبراء الاقتصاديون حينئذ بـ(المعجزة الأرجنتينية) لم تدم طويلا، فقد استيقظ الأرجنتينيون على وضع اقتصادي ينذر بكوارث حقيقية نتيجة استمرار اعتماد الحكومة على الديون الخارجية. هذا أوجد خللاً بنيوياً اقتصادياً عميقاً فقدت معه الحكومة القدرة على تسديد ديونها التي وصلت 140 مليار دولار، ولم تسدد منها سوى 80 مليون دولار فقط للسنة.
هذا دفع أصحاب القروض من المؤسسات الدولية الدائنة إلى وضع الأرجنتين بقائمة المتأخرين بالتسديد. وهذا الاجراء ترتب عليه تبعات قانونية خفضت من قيمة العملة الأرجنتينية بـ70 % وهنا كانت بداية أزمة العملة 1977 -1999.
تجربة الأرجنتين مع الدين الخارجي وأثره السلبي يقدم (حالة دراسية) ثرية بالعبر، وتكشف خطورة استخدام أدوات الاقتصاد الليبرالي الجديدة مثل التوسع الحكومي في الاقتراض، بالذات على الاقتصادات الصاعدة. الذي نتطلع إليه أن نرى الأرجنتين قادرة على النهوض من كبوتها الاقتصادية، ولعل فوزها التاريخي الرياضي يحيي فيها الأمل لمواجهة ظروفها الصعبه، ومواجهة التحدي، كما واجهت قطر التحدي العظيم لتنظيم البطولة بنجاح.
لقد سخرت قطر الإمكانات لانجاح البطولة، والنجاح حظي باعتراف الفيفا، وسبق أن ذكرنا هنا في هذه الجريدة أن نجاحها هو نجاح للشعوب العربية، فنحن في نظر العالم كيان واحد. الإيجابي إن حقيقة الكيان الواحد، كما كنا نتطلع، أكدت أن الأجيال الجديدة الشابة تجدهم على مستوى المسؤولية عندما تكون بلادهم، أمنها وسمعتها، تواجه التحديات. لقد حمل سلوكها وجميع تصرفاتها وطريقة التعبير عن مشاعرها صور إيجابية عن الخليج وجميع الشعوب العربية. والتفاعل العالمي مع الإسلام والثقافة العربية، واكتشاف طرق المسلمين في النظافة الشخصية، أكدت أهمية الرياضة كإحدى أدوات (الدبلوماسية الشعبية) حيث تتسرب عبرها الصور الإيجابية أو السلبية عن الشعوب والدول.
والحمد لله أننا رأينا من الشباب الخليجي والعربي مظاهر التزام والاحترام للتعليمات الرسمية، والأهم أن الشباب الخليجي والعربي قدموا صورة مشرفة عن الإسلام، وأظهروا مشاعر الود والتقدير للجماهير غير العربية، فقد حملت وسائل التواصل الاجتماعي صوراً ومواقف إيجابية عديدة للمشاركة الوجدانية، مثل موقف الشاب العماني الذي استضاف مشجعا أرجنتينيا كان يستعد لمغادرة قطر بسبب نفاد أمواله، وغيرها الكثير مما تجاذبه الناس بينهم حول العالم بمشاعر الفرح والدعابة.. مثل مشاهد البحث عن ميسي.. وسالم الدوسري!