د.فوزية أبو خالد
منذ أن أعلنت منظمة الأمم المتحدة يوم الثامن عشر من الشهر الأخيرللسنة الميلادية يوماً احتفائياً باللغة العربية وآدابها ومعارفها أصبح من المتعارف عليه ألا يمر هذا اليوم دون أن يعنى العالم أجمع عبر مؤسساته الثقافية المعنية باللغات والحضارات ومنها مؤسسات الأمم المتحدة كاليونسكو بباريس ومثيلاتها في العالم كمجمعات اللغة العربية والجامعات بإقامة يوم تمجيدي لهذه اللغة يعيد اكتشافها ويذكر بمساهمتها العريقة في كشوفات ومدونات الحضارة العالمية.
وإذا كان انتزاع يوم للغة العربية من التقويم السنوي لللقائمة الطويلة لمختلف الأيام الاحتفائية على جدول الأمم المتحدة كيوم الطفولة ويوم الشعر ويوم البيئة قد جاء بعد أن استطاعت الدول العربية عام 1979 والمملكة العربية السعودية ومملكة المغرب تحديداً أن تعيد الاعتبار لمنجز اللغة العربية التاريخي في الآداب والعلوم بإصرارها على أن تكون اللغة العربية من اللغات القليلة الحية المعتمدة في مداولات الأمم المتحدة ومدوناتها ومواثيقها العالمية كوثيقة حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الطفل وحقوق الاستقلال للدول التي خضعت لأي شكل من أشكال الهيمنة الاستعمارية، فإن ذلك الإنجاز لازال يواجه بعدد من التحديات نحو إقامة علاقة عدلية بين اللغة العربية واللغات الأخرى على المنصات الدولية على قدم المساواة.
وألخص لمحة من معاناة اللغة العربية ومواجهاتها المتعددة الأوجه في الفضاء الدولي بمثال ميداني معاش من تجربتي تحت سقف الأمم المتحدة تحديدا في كتابة تقارير التنمية من خلال منظمتها للعمل الإنمائي الإقليمي المعروف بيو إن دي بي (UNDP) وفي هذا أشير إلى النقاط التالية:
1 - إذا كان الإرث الفلسفي والعلمي العربي والإسلامي المخطوط باللغة العربية قد عانى تاريخياً داخل مؤسسات العلم والفكر الغربية من موقف يفتقد العدل المعرفي بتهميش إضافاته والنظر إليه كوسيط لغوي ليس إلا بين المعرفة الإغريقية اليونانية وبين غرب مابعد القرون الوسطى، فإن اللغة العربية ورغم التوسع في استضافاتها الأكاديمية داخل الجامعات الأمريكية والغربية عموماً وداخل بيوتات الفكر ومراكز البحوث لا زالت تعاني نسبياً من تنميط استشراقي يتعامل معها كناقلة صماء للمعلومات في مجال العلم والأدب والاقتصاد والأمن إلخ ولم يستقر بعد التعامل معها كوعاء حضاري يعبر عن روح المجتمع الذي تنتمي إليه وجدانياً وفكرياً وقيماً أخلاقية واجتماعية. فمثلاً كلمتان غالية في القاموس الاجتماعي ككلمة مساواة وكلمة سلام أو كلمتان غالية في القاموس الشعري ككلمة حرية وحب ليس مجرد كلمات لنقل مطلب أو لفرض شرط بالمقياس الدولي البرجماتي ولكنها كلمات مشحونة بحمولة التاريخ والجغرافيا البشرية في التعامل معها وفي الوقت نفسه فإن لكل كلمة منها حمولتها الشجنية الخاصة المستمدة من التجربة الذاتية لكل لغة في المعايشة الفعلية لمعنى هذا الكلمة وفي العملية المضنية لمخاضات خلق الكلمة والمعاني والأصوات التي تشكل اللغة. فكلمة مساواة.. سلام أو كلمة حرية وحب يتغير موقعها في معمار اللغة وتغير بدورها معمار اللغة في ضوء تجارب المجتمع الإنساني ويصبح على المجمعات اللغوية مجارات أو مضاهات تجدد اللغة.. على سبيل المثال مواثيق الأمم المتحدة لن تستطيع أن تكون أممية لو أنها حبست نفسها في النظر إلى اللغة كوسيلة نقل محايدة وليس بوصفها شفرة تفاعلية بين المضمون وبين الشكل وبين القول وبين الفعل. ومن هنا فقد لاحظتُ من تجربة كتابة تقارير التنمية وجود نوع من الفجوة اللغوية التي قد تخفي خلفها فجوة عدلية في النظر لنفس التقرير عند مقارنة كتابته وقراءته باللغة العربية وباللغة الإنجليزية.
2 - تواجه اللغة العربية أيضاً مع سواها من لغات عالمية حية أخرى اليوم تحدي تحول لغة واحدة وهي اللغة الإنجليزية إلى أداة للاستحواذ ولفرض أحادية لغوية متغولة وموغلة.
3 - هناك أيضاً مواجهة الخروج على النظر إلى اللغة العربية من قبل أصحابها أنفسهم وليس فقط من قبل الآخر كمكون أحادي بما ينفي طبيعيتها الطيفية كالنظر إليها بأنها لغة أدب أو لغة خطابة أو لغة فقه ودين أكثر منها لغة علم أو فلسفة.
4 - تواجه عموم اللغات اليوم المقروءة والمكتوبة والمحكية تحدي مضاهاة الصورة والفلم والرموز التعبيرية وسطوتها على وسائل التواصل الرقمي أما اللغة العربية على وجه التحديد فيخيل لي أنها تعاني من غياب المحتوى العلمي والأدبي الإلكتروني القادر على تسجيل حضور كاف لها يقاوم الاستحواذ على جميع المنافذ الرقمية ويتيح لها حضوراً ثقافياً ومعرفياً وكيفياً متكافئاً ومتبادلاً مع ثقافات العالم.
5 - تواجه اللغة العربية تحدي العلاقة العاطفية بها من قبل أصحابها والناطقين بها مما يتمثل في تحاشي المؤهلين منهم من اتخاذ أي مواقف نقدية منها بما يحرمها من القدرة التحريرية التي يملكها النقد النوعي الموضوعي عادة في إطلاق طاقاتها الكامنة وفي تجديد مجازاتها ومجالاتها من داخلها وفي سياق تحولات الثقافة والواقع وإيقاعهما السريع والمتنوع.
ومع ذلك لن نكف عن الإسراف في التمسك بالأمل بجدارة اللغة العربية وجمالها وبأنها كانت وتستطيع أن تكون لغة للمعرفة العلمية كما هي لغة للأدب والشعر مع إيمان عميق بأن اللغة العربية هي لغة حياة بقدر ما هي لغة كتب.
فالقرآن الكريم وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من أمامه ولا من خلفه جاء باللغة العربية ولم يكن الله ليصطفي هذه اللغة ويرشحها للخلود لولا ما أودعه فيها بديع السماوات والأرض من إعجاز القول في قدرة التعبيرعن آيات الله الكونية الكبرى في العلم والأدب وفي الغيب والشهادة بأسلوب إبداعي لا يزال بعد 1400 سنة قادرا يقطر جمالاً طازجاً وكأنه كتب للتو.