بقلوب مؤمنة بقضاء الله وقدره انتقلت إلى رحمة الله تعالى يوم الأربعاء 6-5-1444هـ المرأة الصالحة والأم الحانية هيا فهد الطلاس (أم عبدالرحمن الغريبي) بعد معاناتها المرضية تغمدها الله بواسع رحمته.. والحقيقة أن القلم يعجز عن التعبير, واللسان عن الكلام، وأن القلب ليحزن والعين تدمع على فقد الأحبة ولا نقول إلا ما يرضي الله -عز وجل- الحمد لله على قضائه وقدره.
فمن سنن الله -عز وجل- أن هذه الحياة لا تدوم على حال، ولا تصفو لأحد مهما كان، إن أضحكت أبكت, وإن سرت أحزنت, وأن أراحت أتعبت, كل حي فيها يموت, وكل مخلوق فيها يفنى : قال الله تعالى (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) سورة الرحمن 27 -26.
فلا بد إذاً من الرحيل ومغادرة هذه الدنيا الفانية لقوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) سورة آل عمران: 57، منهم من يرحل ويرحل معه ذكره, ومنهم من يرحل جسداً وتبقى سيرتهم النيرة حاضرة في قلوب محبيه بنقاء سريرتهم وحُسن أخلاقهم وأعمالهم الصالحة.. ووالدتنا الراحلة (أم عبد الرحمن) رحلت جسداً وبقيت سيرتها محفوظة في القلوب وراسخة في الذاكرة والوجدان. ولا غرابة من ذلك فسيرة (فقيدتنا الغالية) تمثل جسراً كبيراً في فهم طبيعة المرأة السعودية في (الماضي الجميل) نساء عابدات.. صالحات.. تقيات.. عفيفات.. يخفن الله في السر والعلن.. وفي جوانب حياتها -غفر الله لها- تلك الروح الكبيرة والقلب المنيب, وجمال التقوى والصلاح وحب الفضيلة التي كانت تتمتع بها - رحمها الله - مع حزمها وتدينها، وهي روح الدعابة وزرع الابتسامة لمن حولها وتضفي على زوارها ومحبيها شيئاً من الفرح والسرور التي تدخل القلب بعفوية ونقاء السريرة وجمال تلك الدعابة والطُرُف عن حياة الأولين التي كانت ترويها لنا، وتحديداً عن حياة نساء زمان، وبساطة وعفوية حياتهم الاجتماعية الجميلة المتجسدة في الصدق والهدوء والإيثار وراحة البال ونقاء القلوب وصفاء النفوس, والطمأنينة واحترام الكبير والعطف على الصغير.
نشأت فقيدتنا (أم عبدالرحمن) في بيئة عائلية صالحة فوالدها الشيخ فهد بن محمد بن طلاس- رحمه الله - عرف عنه القيم الدينية والاجتماعية, ووالدتها منيرة محمد الجخيذب -رحمها الله -التي ربتها التربية الدينية الحميدة وأحسنت تنشئتها التنشئة الاجتماعية السليمة التي انعكست على قيمها الإيمانية الصادقة ومنهج حياتها التربوي والديني القويم.. فكانت -رحمها الله- مدرسة من الإحسان وحُب الخير والعطف والحنان.. بقلبها الكبير الذي احتوى الجميع من الأقارب والأحباب, وحتى الجيران الذين كانت تحرص على التواصل معهم وهي قيمة أخلاقية أصيلة حثّ عليها ديننا الإسلامي الحنيف، ومعروف أن العلاقات بين الجيران في الماضي الجميل كان يسودها الوئام والتعاون والتكافل والتلاحم والتراحم والتوادد فعاشوا على الحلوة والمرة في السراء والضراء وفي الشدة والرخاء وارتبطوا فيما بينهم بأواصر الألفة والمحبة الصادقة والوفاء والنبل النابع من العمق الإيماني الذي يؤصل أهمية (الجار ) والإحسان إليه وتفقد أحواله وهو المنهج القيمي الذي تربت عليه الأم الحانية رحمها الله تعالى.
أتذكر ونحن صغارٌ أنا وشقيقتي (نوف) كانت تنتابنا مشاعر الفرح والسرور حين تذهب الوالدة سارة الغريبي- رحمها الله - إلى بيت شقيقها رجل الكرم والجود الراحل محمد الغريبي -رحمه الله- أسبوعياً فكانت فقيدتنا الغالية تعتبرنا أبناءً لها بعد أن فقدتُ والدتي (نورة الموينع) رحمها الله وأنا في (شهري السادس).. وشقيقتي عامين..وكانت تكرمنا بمشاعرها النبيلة، وتغمرنا بحنانها الكبير, وطيبتها المتناهية فشكلت تلك الأيام الخوالي في حياتي الطفولية مرحلة هامة في مسار شخصيتي القيمية والتربوية والاجتماعية.
كانت (الراحلة) كريمة.. سخية.. متواضعة أحبها كل من عرفها عن قرب، سواء داخل نسيجنا العائلي أو خارج محيطنا القرابي غير أن رحيلها ترك في القلب لوعة، وفي النفس حسرة، وفي نبرات الصوت غصة.. وعزاؤنا في لوعة الفراق وألم الرحيل أن (فقيدتنا الغالية) كانت امرأة صالحة (صبرت) على مرضها ومع شدة السقم والابتلاء كانت مدرسة من الصبر والاحتساب والإيمان لقضاء الله وقدره؛ لم تفارقها الابتسامة عندما يزورها الأبناء والأقارب وكل من أحب هذه المرأة الصالحة.. ولأن الإيمان كما يقول الإمام (ابن القيم) - رحمه الله - نصفان.. نصف شكر ونصف صبر، فقد كانت كثيرة الشكر والحمد في كل حال.. ومتمسكة بحبل الصبر المتين.. هكذا كان خلق الأولين.. ودأب الصالحين.
أسأل العلي القدير أن يجعل ما أصابها تكفيراً للخطايا، وتمحيصاً للذنوب، ورفعة لدرجاتها.. اللهم إن والدتنا (هيا) في جوارك فأكرمها بكرمك, وأرحمها برحمتك.. فأنت الكريم.. الرحمن.. المنان.. الرحيم.
وأخيراً..إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك.. يا أم الحنان والإحسان لمحزونون.. ولا نقول إلا ما يرضي ربنا العظيم.. (إِنَّا لِلِّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ).
** **
- خالد الدوس