سعد بن دخيل الدخيل
كان الملك عبدالعزيز في طريقه لاسترداد الرياض طموحاً واثقاً من نصر الله له، يُعد لمرحلة حاسمة تبدأ بالرياض وقد رسم صورة ممتدة في ذهنه لوطن موحد تحت راية واحدة ينعم بالأمن والرخاء، ويرفل في رغد من العيش، يعيش الشعب فيه عزيزاً كريماً، لذا وبعد أن منَّ الله عليه هو ورجاله الأشاوس بنصر مؤزر ودخولهم دخول الفاتحين إلى الرياض، وبعد أن صاح المنادي: «الملك لله ثم لعبدالعزيز» ذلك النداء الذي جلب الطمأنينة لكل من سمعه في هذا الوطن حين توحيده، بعد هذا النصر شرع مباشرة في بناء الدولة وتنفيذ رؤيته التي رسمها وهو في طريقه لاسترداد الوطن، يقول د. إبراهيم السماري في كتابه: الملك عبدالعزيز الشخصية والقيادة: «حرص الملك عبدالعزيز منذ أن وضع خطواته الأولى في درب تأسيس المملكة العربية السعودية على أن ينشئ دولة قوية الأركان متماسكة الجوانب، مرهوبة الجانب، فكان لابد أن يلتفت إلى بناء مؤسسات الدولة بما يحقق مصلحة مجموع الأمة» ويضيف السماري: «ويمكنني القول- استقراءً واستنطاقاً-: إن بناء مؤسسات الدولة اتسم بأنه يجيء دوماً في الوقت الذي تظهر الحاجة ماسة إليه، ولا سيما أن جهود الملك عبدالعزيز الرامية إلى تثبيت أركان الدولة، وتوحيد أجزائها، وتأمينها من خصومها، قد استغرقت عملاً شاقاً ووقتاً طويلاً»، وحقاً إن شروع الملك المؤسس طيب الله ثراه في بناء الدولة ومؤسساتها يدل على أن هذا القائد الملهم لا يعرف المستحيل، فالظروف الاقتصادية كانت صعبة جداً مع قلة في الكفاءات المتخصصة، لكنه بدأ بحنكة ودراية في تشكيل مؤسسات الدولة وتعيين مسؤوليها، وهنا تقول الأستاذة لطيفة عبدالعزيز السلوم في بحثها لنيل درجة الماجستير: التطورات السياسية والحضارية في الدولة السعودية المعاصرة 1344هـ/1926م - 1351هـ/1932م: « إلا أن التعديلات والإضافات الكثيرة من تشكيلات الدولة حدثت بعد صدور نظام مجلس الوكلاء في 19 شعبان 1350هـ / 29 ديسمبر (كانون الأول) 1931م لمواجهة التطور الذي تعيشه البلاد، وقد نجح مجلس الوكلاء في أعماله بسبب المركز الممتاز الذي كان يتمتع به رئيس المجلس سمو الأمير فيصل، وقد استمر مجلس الوكلاء يمارس أعماله ثلاثة وعشرين عاماً إلى أن تم تشكيل مجلس الوزراء» يقول الدكتور السماري: «وكان مجلس الوكلاء هو نواة مجلس الوزراء، فبعد تطور التشكيلات الإدارية، وتأسيس الوزارات، ظهرت الحاجة إلى إدارة مركزية؛ فصدر الأمر الملكي القاضيتأسيس مجلس الوزراء في 1 /1373/2هـ (1953/10/10م)» وتُعد وزارة المالية من أعرق الوزارات في تاريخ المملكة العربية السعودية، بعد وزارة الخارجية، فقد تأسست في عام 1344هـ باسم «مديرية المالية العامة لإدارة الأمور المالية» في عهد الملك عبدالعزيز آل سعود في منطقة مكة المكرمة. واستمرت مديرية المالية في أعمالها ومعالجة الشؤون المالية للدولة والمرجع الأول والمهم في تعريف شؤون المالية وإدارة شؤونها، وتنظيم مواردها المختلفة وطرق صرفها، والمسؤول عن ديوان المحاسبات والتفتيش والرقابة المالية، ولمواجهة التوسع في الأعمال تم تحويلها إلى «وكالة المالية العامة» ووافق الملك عبدالعزيز على نظامها في 18 ربيع الأول 1347هـ الموافق 2 سبتمبر 1928م وأعلنت هذه الموافقة على النظام في صحيفة أم القرى في عددها رقم 194 يوم الجمعة 30 ربيع الأول سنة 1347هـ الموافق 14 سبتمبر 1928م ونص الخبر: «نظام وكالة المالية العامة: وافق جلالة الملك المعظم على النظام الذي وضع لوكالة المالية العامة وربما تمكنا من نشره في العدد المقبل»، وقد تم نشر النظام تحت عنوان: (نظام وكالة المالية العامة وهو النظام الذى صدرت الإرادة السنية الملوكية بالموافقة عليه والأمر بتنفيذه بتاريخ 18 ربيع الأول 1347هـ.) على جزأين، كل جزء في عدد من أعداد الصحيفة الأول يوم الجمعة 7 ربيع الآخر 1347هـ الموافق 21 سبتمبر 1928م في العدد رقم: 195 والجزء الثاني من النظام مع الملحق له نشر يوم الجمعة 14 ربيع الآخر 1347هـ الموافق 28 سبتمبر 1928م في العدد رقم 196، وجاء في هذه النظام: 7- تؤلف وكالة المالية العامة بصفتها المرجع الوحيد لعموم الماليات والمحاسبة لها والمسؤولة عنها من فرعين كما يأتي: أ- قلم تحريرات: وهو المسؤول عن جميع الأعمال التحريرية والمخابرات المالية. ب- ديوان محاسبات: وهو المسؤول عن جميع حسابات المالية بالعاصمة وجدة والملحقات، كما جاء في النظام: النفقات تقسم إلى ثلاثة أقسام 1- النفقات المقررة كالرواتب المقررة بالميزانية وهذه تصرفها المالية شهرياً حسب المقرر. 2- الاعتمادات المخصصة بالميزانية لأمور خاصة فهذه تصرفها المالية بناءً على طلب الدائرة التي خصص لها الاعتماد وإلا إذا حصل الخلاف بين المالية والدائرة المختصة على جوهر الموضوع وضرورة إنفاق المبلغ المعتمد من عدمه فعندئذ يحال الأمر إلى النيابة العامة للبت فيه وإصدار الأمر القطعي بالصرف من عده. 3- النفقات فوق العادة وهذه لا تصرفها إلا بأمر من جلالة الملك أو من نائبه العام. كما جاء في النظام ما يخص الميزانية لكل دائرة وقد شكل جلالة المؤسس لجنة أطلق عليها لجنة الميزانية وأعلن عنها في صحيفة القرى بخبر مفاده: « تشكلت لجنة من رجال الاختصاص لمباشرة شؤون الميزانية المختلفة لعموم الدوائر الحكومية» ولم تكن موازنة عامة للدولة ولكنها كانت بداية الاهتمام لبناء ميزانية عامة: 38- على الدوائر أن ترسل لوكالة المالية العامة موازنتها لأجل تدقيقها وتعليمها من قبل لجنة الميزانية كموازنة عامة إلى النيابة العامة قبل حلول رأس السنة المالية بشهرين على الأقل لإجراء ما يقتضى نحوها. وشدد النظام على وجود مستندات للصرف فجاء في المادة رقم 40 ما نصه: أن الأوامر الشفوية والتلفونية لا تصلح أن تكون مستنداً في الصرف مالم تقرر بكتابة رسمية، كما جاء في النظام عدم الموافقة على المناقلات بين البنود كما في المادة 8 من ملحق النظام ونصت على: لا يجوز نقل مخصص بند إلى مخصص بند آخر من مقررات الميزانية في خلال السنة، وبموجب هذا النظام الذي أقره جلالة المؤسس رحمه الله أُلزمت جميع الدوائر الحكومية التي ترد لها أموال أو بمعنى آخر لها إيرادات أن تقدم جدولاً شهرياً مفصلاً بتلك الإيرادات بأنواعها وذلك لتدقيق حساباتها وتطبيق النظام الخاص بها، وقد واجهت الوكالة صعوبات الركود الاقتصادي العالمي مع قلة الإمكانيات وزيادة الأعمال وتوسع الدوائر في مختلف مناطق البلاد ولكنها استطاعت تجاوزها بفضل توجيهات جلالة المؤسس غفر الله له، وحافظت بذلك على نظامها وعملت على تسيير جميع العمليات المالية متوائمة مع جميع ما مر بها من معوقات وصعوبات، واهتم جلالة الملك عبد العزيز بتنظيم المصروفات على جميع دوائر الحكومة لتكون وفق الإمكانات وطبقاً للنظام الذي عمل عليه الخبراء ووافق عليه المؤسس، ولم يغفل الصدقات والإعانات فقد أسس لجنة أطلق عليها: «اللجنة العليا لتوزيع الصدقات والإعانات والمخصصات وإدارتها» وأصدر لها نظاماً بأمر ملكي رقم 1114 في 14 محرم 1347هـ لتشرف بشكل نظامي على توزيع الصدقات والإعانات والمخصصات. وحول مراحل تطور المالية السعودية إلى وزارة يقول المؤرخ العراقي عبدالمنعم الغلامي في كتابه الملك الراشد جلالة المغفور له عبدالعزيز آل سعود: «كان جلالة الملك عبدالعزيز قد جعل مالية كل بلاد مملكته قائمة بذاتها وتابعة للحاكم الإدري تحت إشراف جلالته، فلما استقر الأمر في المملكة على دعائم قوية أبدى رغبته في وضع نظام لإدارة المالية للعمل بمقتضاه فانبعث عن ذلك (مديرية المالية العامة ) وعهد إلى الشيخ عبدالله السليمان في 17 ربيع الثاني 1346هـ بأن يكون مديراً لها، فقام الشيخ المشار إليه بتوحيد شؤون مالية المملكة بما فيها مالية الحجاز وربطها بمديريته عدا مالية الأحساء وفي جمادى الثاني 1348هـ منح الشيخ عبدالله السليمان مدير المالية لقب (وكيل المالية العام) وسميت المديرية المذكورة باسم (وكالة المالية العامة) نظراً إلى النشاط الذي أبداه وإلى مقدرته الفائقة في الاضطلاع بهذه المهام، وفي هذا التاريخ ارتبطت كذلك إدارة مالية الأحساء بهذه الوكالة العامة، وبذلك أصبحت جميع مالية البلاد مرتبطة بها وخاضعة لها». هذه الوكالة تطورت أعمالها بشكل كبير فصدر الأمر الملكي بتحويلها إلى وزارة للمالية في العام 1351هـ والذي يوافق 1932م، يقول الغلامي: «وفي هذه السنة صدر الأمر الملكي بجعل وكالة المالية العامة وزارةً وبتعيين معالي الشيخ عبدالله السليمان وزيراً لها تقديراً لجهوده واعترافاً بخدماته الجليلة في إدارة مالية البلاد في جميع المراحل التي مرت عليها»، وفي 20 ربيع الآخر 1351هـ الموافق 23 أغسطس 1932م صدرت الموافقة الملكية على نظام وزارة المالية وبموجب هذا النظام أصبحت وزارة المالية مسؤولةً عن تنظيم وحفظ أموال الدولة، وجبايتها، وتأمين طرق وارداتها ومصروفاتها، والمرجع العام لعموم الماليات في كل مناطق المملكة، وجميع الدوائر الجبائية.
وفي هذه المسيرة الطويلة للمالية السعودية لم تكن الميزانية عامة لكل الدولة بل كانت ميزانيات مستقلة لكل دائرة من دوائر الحكومة وفيما يخص الميزانية يقول فؤاد حمزة في كتابه البلاد العربية السعودية: «أجريت المحاولة الأولى لوضع ميزانية ثابتة في مطلع عام 1348هـ ولكن الميزانية الثابتة تقررت في 1351 وقد فصلت فيها أبواب الواردات والنفقات العامة وقد جرت العادة في وضع تقديرات الميزانية أن تكلف الدوائر الرسمية بوضع مشروعات مفصلة بموازناتها وهذه المشروعات تقدم إلى المالية فتدرس فيها وتبدي الملاحظات عليها ثم تحال إلى مجلس الشورى لأجل تدقيقها. وبعد دراستها من قبل المجلس تعرض على مجلس الوكلاء لأجل استحصال الموافقة الملكية عليها وتبلغ نفقات الدوائر الرسمية حوالي (14) مليوناً من الريالات وتقدر الواردات بمثل ذلك»، وكان الملك عبدالعزيز رحمه الله قد أصدر موافقته على نظام الموازنة وهي أول ميزانية عامة للبلاد وتبدأ من غرة شعبان 1350هـ الموافق 10 ديسمبر 1932م وتنتهي في 30 رجب 1351هـ الموافق 28 نوفمبر 1932م وأعلنت في صحيفة أم القرى في عددها رقم 370 في 7 رمضان 1350هـ الموافق 15 يناير 1932هـ الموازنة العامة والتي بلغت مخصصات الإنفاق مبلغاً وقدره (106.422.544) قرشاً أميرياً (14 مليون ريال تقريباً) ونشرت الصحيفة كشفاً بالمخصصات المقررة على النحو التالي:
أبواب الإنفاق المبلغ المخصص (قروش أميرية)
* المخصصات الملكية 6600000.
* أقساط الدين 16500000.
* الديوان الملكي والقصور وديوان الخزينة 12950000.
* قوات الحدود 3850000.
* حصة الحجاز في معالج الدفاع 22000000.
* مواصلات ونقليات وتجهيزات 11000000.
* رئاسة القضاء والمحاكم الشرعية 1123692.
* النيابة العامة وإدارة الملحقات 3149530.
* مجلس الشورى والمجالس الإدارية 573110.
* وزارة الخارجية وتوابعها 1490789.
* الصحة العامة والمحاجر الصحية 2731740.
* الكنداسات وتوابعها 1753225.
* المعارف العمومية 1212042.
* نظارة الرسوم وتوابعها 1240832.
* الماليات 2251078.
* الأمن العام 10441199.
* المطبعة الأميرية 161830.
* هيئات الأمر بالمعروف 165070.
* الرواتب المتنوعة 988720.
* البريد والبرق واللاسلكي والتليفون 4210450.
* الحرمان الشريفان 2048137.
* يكون عمومي (المجموع) 106442544.
واشتمل نظام الموازنة على ست مواد أشارت إلى تاريخ بداية السنة المالية ونهايتها وكذلك أشارت إلى مجموع الموازنة بالقروش الأميرية والبالغ 106442544 قرشاً أميرياً، وحول هذا الإعلان عن نظام الموازنة يقول سيد عيسى في كتابه التنمية الاقتصادية في المملكة العربية السعودية: «وتعتبر وثيقة تلك الميزانية من أهم الوثائق التاريخية التي تلقي الضوء على حجم موارد الدولة في تلك الفترة وطبيعة الاتفاق العام، وتعطي صورة صادقة عن حجم الإدارات الحكومية ومهامها، كما تعتبر مؤشراً عاماً للنشاط الاقتصادي والاجتماعي بصفة عامة» ويتحدث فؤاد حمزة عن أبواب الواردات فيقول: «نذكر منابع الواردات في البلاد فيما يلي: الجمارك وهي تؤلف الجزء الأعظم من الواردات السنوية، الزكاة أي زكاة الزروع والمواشي، الجهاد وهو ما يدفعه المكلفون بالجهاد من رجال القبائل حينما لا يؤدونه بأشخاصهم، البريد والبرق والتلفون، الضرائب المقررة على شركات الملاحة وهي تتقاضاه من الذين يركبون في بواخرها، الضرائب المقررة على وسائط الانتقال من سيارات وجمال وغيرها، المهن والبضائع، إيجار الأملاك، رسوم الطوابع والدمغة، ثمن جوازات السفر وتذاكر المرور، رسوم كتابة العدل، رسوم الإجراءات القضائية، الرسوم التي تتقاضى من الشركات، حصة الحكومة من الشركات صاحبات الامتياز»، وختاماً أقول: إن جلالة المؤسس رحمه الله وبحق أسس دولة قوية وقد تركها على أسس راسخة شامخة، وكما يقول د. إبراهيم السماري: «وهكذا لم يغادر الملك عبدالعزيز هذه الدنيا إلا بعد أن أكمل تأسيس دولة موحدة، قوية في إعداد رجالها وفي بناء مؤسساتها».
ولنا الفخر بالحديث عن مؤسس هذه البلاد العظيمة المملكة العربية السعودية، ومهما تحدثنا عن فكره وعن طموحه، وجهوده، وأعماله، وإنجازاته، وعن كاريزما القيادة لديه فسنستمر في الحديث والكتابة والتأليف، وكما يقول خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز في كتابه ملامح إنسانية من سيرة الملك عبدالعزيز: «وبما أنني واحداً من أبنائه تربيت على يديه - رحمه الله- فإن حديثي سيكون معتمداً على ما وعيته وسمعته، وقرأته، واطلعت عليه من روايات الثقات من كبار الأسرة ورجال عبدالعزيز. فشخصية الملك عبدالعزيز كسائر شخصيات التاريخ القديمة والحديثة لاتزال تحظى بالاهتمام والبحث دون توقف، وأسمع دائماً مقولة: إن الملك عبدالعزيز لم يكتب عنه كما ينبغي، وأقول لمن يتحدث معي في هذا الموضوع: إن رجال التاريخ وشخصياتهم مثل الملك عبدالعزيز تتواصل الكتابة عنهم خلال السنين، ويقدم عنهم إلى اليوم ومستقبلاً رسائل علمية ودراسات جديدة»
أعز الله هذا الوطن وأدام عليه نعم الأمن والرخاء والاستقرار، تحت قيادة مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود وسيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء حفظهما الله وأيدهما بالتوفيق والسداد.