جمال الدين القاسمي من أفذاذ الزمان، ونبغاء المكان، علّم وتعلّم وبرز فبرّز، فكان بذلك من رجالات وأعيان التاريخ، بعض المشهورين الذين عرفهم التاريخ، لا تجد في الترجمة لهم ما يسد الرمق، بل تكاد لا تجد إلا النزر اليسير، وبعض الناس تحفل تراجم التاريخ بالإشادة بذكرهم، والتنويه بمآثرهم، والعلم الذي بين أيدينا شاهد حي على قولنا هذا، عاش القاسمي ومات طيف بذل وعطاء.
جمال الدين القاسمي عالم، أديب، عظيم الطموح، كريم النفس، جم التواضع، كرس علمه وعالمه لأبناء جنسه، وشاء له الله أن يحقق أحلامه العلمية الكبيرة، فرحمه الله رحمة الأبرار، وغفر له مغفرة الصالحين، والكتاب الذي بين أيدينا من نوادر الرحلات إلى المسجد الأقصى، وعنوانه: رحلتي إلى البيت المقدس، وفارسه وراقمه هو العلاَّمة جمال الدين القاسمي، وحققه وعلق عليه فضيلة الشيخ النحرير محمد بن ناصر العجمي - حفظه الله ورعاه، وسدد في سبيل العلم خطوه وخطاه- والطبعة التي أعمل عليها هي الأولى لعام 1431هـ/2010م وقد أنتجته دار البشائر الإسلامية، ويقع الكتاب في مئة وخمس وثلاثين ورقة من القطع الكبير، والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح على المحقق هو: ما الذي تحويه هذه الرحلة من كنوز، وكان المحقق حاذقاً متفرشاً أتحف قراء كتابه حيث قال: (إن العلامة القاسمي قد سجل كل ما مرَّ به، ونقل في بداية رحلته شيئاً من تاريخ وجغرافية عمان من المصادر القديمة وبعض الحديثة، وفي أثناء ذلك فإنه يذكر على سبيل الإجمال القلاع والحصون والأسوار والأعمدة وجمال الطبيعة وحسن مغانيها، بل وأحوال العمران ونهضته، والإشارة إلى بعض الموارد التجارية وأحوال الناس ممن مرَّ بهم - كنعت بعض العسكر وجُباة المكوس- وثنيي على حال من لقي من أهل العلم والفضل، ويصف بعض أحوالهم، كما ترى ذلك في وصفه للشراكسة في عمان) إلى أن يقول: (لما نزل في المسجد الأقصى كان مكانه هو الزاوية أو المدرسة الختنية فأحب التثبت من ذلك، فتراه يقول: «ثم راجعت تاريخ أنس الجليل، فرأيته ذكر أن منزلنا المذكور كان في الأصل زاويةً، وذكر نصه في ذلك، ولما زار المدرسة الصلاحية ذكر أن صلاح الدين قد شيّدها وأشار إلى عبارة أبي شامة في كتاب «الروضتين»، وأما زيارته للمكتبة الخالدة الخالدية التي بجوار المسجد الأقصى المبارك فإنه يقول: «زرت المكتبة الخالدية في جوار الحرم، وطالعت بعضاً من نفائس كتبها، وترددت إليها كثيراً) والعلامة جمال الدين القاسمي كان شاعراً مفوهاً ضارباً في الشعر بسهم نافذ، حائزَ منه بقدر فائض، يقول في متن هذه الرحلة ما نصه: (في أثناء ترددي للمكتبة الخالدية طلب مني أربابها الكرام أبياتاً يأثرونها في دفترهم الذي يأثرون من كل قادم يتوسمون فيه الفضل، فاعتذرت بأني لست من أولئك الرجال، فألحوا فكتبت على عجل هذه الأبيات، واختلستها رغماً عن مهماتي في تلك الأوقات، فقلت مشيراً إلىآداب الزيارة والمجاورة في الحرم وفضله وفضل الصخرة وتطرقت لحجرتنا التي نزلنا بها، فقلت:
أيها الزائر بيت المقدس
يبتغيه بعد شق الأنفس
أحمد المولى بما أولى إذا
ما بدت أعلام نور القدس
وأقم في الحرم الأسمى على
طاعة والذكر وقت الغلس
وابتهل لله في جُنح الدجى
وأسل دمعك كالمبتئس
وتجرَّد فيه عن كل الذي
يظلم القلب كلهو المجلس
وهذه الأبيات جاءت حافلة في بزة حريرية ناعمة، وهي طويلة اخترت لك منها ما سلف، وفي الكتاب استشهاد بأقوال علماء زمانهم في الإشادة بالعلامة جمال الدين القاسمي عليه رحمة الله وغفرانه، وعلى رأسهم الشيخ محمد رشيد رضا - رحمه الله-، والشيخ العلاّمة محمد كرد علي -رحمه الله- والأديب شكيب أرسلان -رحمه الله- فأما الأول فيقول: (كان من أكمل من رأيت في أخلاقه وآدابه وشمائله، كان أبيض اللون، نحيف الجسم، ربعة القد، أقرب إلى القصر منه إلى الطول، غضيض الطرف، كثير الإطراق، خافض الصوت، خفيف الروح، دائم التبسم، وكان تقياً ناسكاً واسع الحلم، سليم القلب، نزيه النفس واللسان والقلم، برّاً بالأهل، وفياً للإخوان، يأخذ مما صفا ويدع ما كدر، عائلاً عفيفاً قانعاً).
وأما الثاني فهو عصريّة وبلديّة ويقول: (رزق الصديق العلامة صفات إذا جمع بعضها لغيره، عُدَّ قريع دهره، ووحيد عصره، فقد كان طلق اللسان، طلق المحيَّا، وافر المادة، وافر العقل، سريع الخاطر، سريع الكتابة، جميل العهد، جميل الود، وكان بلا جدال جمال الدين والدنيا ما اجتمع به أحد إلا وتمنى لو طال بحديثه استمتاعه ليزيد في الأخذ عنه والتشبُّع بفضائله والاغتراف من بحر علمه) وقال أيضاً: (تذرع الفقيد بعامة ذرائع لهذه الأمة، فكان إماماً في تآليفه الوفيرة، إماماً في دروسه الكثيرة)، والثالث صرح قائلاً: (وإني لأوصي جميع الناشئة الإسلامية التي تريد أن تفهم الشرع فهماً ترتاح إليه ضمائرها، وتنعقد عليه خناصرها، ألا تقدّم شيئاً على قراءة تصانيف المرحوم جمال الدين القاسمي، الذي قسم الله له من اكتناه أسرار الشرع ما لم يقسمه إلا لكبار الأئمة وأحبار الأمة، والله تعالى ينفع المسلمين بآثاره، ويهديهم في ظلمات هذه الحياة بزاخر أنواره).
هذا وقد كان الشيخ جمال الدين القاسمي مضرب المثل في الحفاظ على الوقت، يقول في معرض التوجيه: (الوقت من أسمى مواهب الخالق التي لا يمكن استعادتها متى فاتت، فلا تتصرف فيه بما يؤسفك على فواته، والوقت أمانة عندك، تسأل عن التصرف فيه) ويقول عن نفسه أيضاً ما نصه: (وقد اتفق لي بحمده تعالى قراءة «صحيح مسلم» بتمامه رواية ودراية في أربعين يوماً، وقراءة «سنن ابن ماجه» كذلك في واحد وعشرين يوماً، وقراءة «الموطأ» كذلك في تسعة عشر يوماً، وقراءة «تقريب التهذيب» في تصحيح سهو القلم فيه وتحشيته في نحو عشرة أيام، فدع عنك الكسل، واحرص على عزيز وقتك بدرس العلم وإحسان العمل).
كتب آل الخالدي أنعم بها
مورداً للفضل منه فاحتسي
من أتى منهلها العذب يُرى
منه بالى فهمه فضلاً كُسي
هكذا فليأتسي من كان يطـ
ـلب مجداً هكذا فليأتسي
غرسوا في القدس فخراً باهراً
ورثوه عن كرام المغرس
رحم الله علامة دمشق وشامها، وأسبغ عليه وابلاً هطلاً من رحماته.
* * *
تأليف: علامة الشام جمال الدين القاسمي الدمشقي (1283 - 1332هـ)
تحقيق وتعليق: الشيخ/ محمد بن ناصر العجمي
** **
قراءة/ حنان بنت عبد العزيز آل سيف - بنت الأعشى -
عنوان المراسلة: hanan.alsaif@hotmail.com