عادل علي جودة
ها قد هلَّ الثامن عشر من ديسمبر/كانون أول، ليشهد لسان الضاد وهو يحتفل به يومًا عالميًّا للغة العربية؛ بما تمتلكه من دقة تصوير، وعمق بلاغة، وحسن بيان، وقبل ذلك بما حباها الله به من إجلال؛ إذ ميزها عن سائر لغات العالمين، فجعلها لغة الوحي الذي نزل على رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فباتت لغة الصلاة التي ينطق بها المسلم سواء كان لسانه عربيًّا أم أعجميًّا.
لذلك أجدني بفخر عظيم أقول: لغتنا مداد عزتنا، وعنوان فخرنا، ونبع حضارتنا، إلا أنني في الوقت نفسه أتجرع الألم جراء ما تعانيه لغتنا العربية من مؤامرات تسعى جاهدة للنيل منها. لا أقصد فقط المؤامرة الكبرى المعروفة ب «الفرقان الأمريكي»، إنما أقصد أيضًا ما تلاقيه لغتنا من أبنائها الناطقين بها، وعلى وجه الخصوص أصحاب الفكر والقلم في مختلف فنون الأدب الذين يهملون أبجديات سلامتها، فبعضهم يُهمل حقوق الهمزة ولا يحسن كتابتها، وبعضهم لا يكترث إن كان الفعل مجزومًا، والاسم مجرورًا، والحال منصوبة، وثلة لا تحترم القارئ إذ تضع أمام ناظريه مفردات تمقتها العفة، ولا أنسى ذلك المستوى المتدني في الأساليب التعليمية التي تُقدَّمُ لأجيال المستقبل.
نعم؛ لغتنا الماجدة تعاني بالرغم من وجود الكثير من سدنتها الغيارى أمثال الأستاذ الدكتور إبراهيم السماري الذي مازلت أذكر مداخلة له في محاضرة قيمة تحت عنوان «اللغة العربية وتحديات العصر»، وأقتبس هنا قوله «إن الدرة المكينة والجوهرة الثمينة تفقد بريقها وقيمتها إذا قُدمت في وعاء رديء، وأحسب... أن اللغة العربية هي تلك الجوهرة الثمينة، وأن أسلوب تعليمنا لها هو ذلك الوعاء الرديء والنحاس الصديء»، ثم أردف قائلًا: «إن المشعل المضيء لا يمكن أن يضيء أكثر وأكثر إلا إذا حملته السواعد القوية الفتية، وأحسب... بأن اللغة العربية هي ذلك المشعل المضيء، وأن سواعد أبنائها عجزت عن حمله».
نعم؛ هكذا هي الحال، ولا أظن أحدًا يختلف مع هذا الرأي الذي يحاكي الحقيقة في أدق تفاصيلها، حقيقة تؤكد أننا نمتلك اللغة الأقوى ببلاغتها وبيانها، بعمقها ودقتها، بشمولها وقوتها، لغة تحتل المرتبة الأولى بين لغات العالم من حيث عدد كلماتها؛ إذ تمتلك ما يزيد عن اثني عشر مليونًا وثلاثمائة ألف كلمة دونما تكرار، ومع ذلك يأتي أحدنا فيتشدق ببضع كلمات من لغات أخرى أبرزها اللغة الإنجليزية التي تأتي في المرتبة الثانية بستمائة ألف كلمة فقط، وأنا هنا لست ضد تعلُّمِ اللغات الأخرى، لكنني أطالب بألَّا نقحم مفردات اللغات الأخرى في ثنايا حديثنا باللغة العربية، فإذا ما اعتدنا على ذلك فحتمًا سيزيغ لساننا، وبهذا المفهوم نظمتُ تحت عنوان «زَاغَ اللِّسَانُ» أقول فيه:
يَنْتَابُنِي أَلَمِي يَجْتَاحُنِي قَهْرِي
كَمْ ضَاعَ مِنْ حَرْفِي كَمْ هَان مِنْ قَدْرِي
أَوَّاهُ يَا كَبِدِي أَوَّاهُ مِنْ وَلَدِي
مِنْ هَوْلِ مَا زَاغَ اللِّسَانُ عَنْ ذِكْرِي
هَلْ تَشْكُو مِنْ نَبْضِي أَمْ تَشْكُو مِنْ نَغَمِي أَمْ
حَادَكَ الْغَرْبُ عَنْ مَدِّي وَعَنْ جَزْرِي
إِنِّي أَرَى مِنْكَ إِدْبَارًا بِلَا جَزَعٍ هَلْ
صِرْتَ فِي طَوْعِ مَنْ يُغْرِيكَ فِي هَجْرِي
عُدْ يَا مُنَى قَلْبِ مَعْشُوقٍ، فَهَا أَنَذَا
تَاجٌ مِنَ الْمَاسِ، بَرْقٌ فِي سَمَا شِعْرِي
قَدْ غَابَ عَنْكَ الجَوَى مُذْ غِبْتَ عَنْ خَلَدِي
مَا فُزْتَ بِالضَّادِ يَوْمَ انْزَحْتَ عِنْ صَدْرِي
فَاذْهَبْ إِلَى أُخْرَى وَاذْهَبْ إِلَى عَبَثٍ
اذْهَبْ وَلَا تَأْتِ لِي بِاللَّغْوِ مِنْ غَيْرِي
أَمَّا أَنَا فَاسْأَلِ الرُّوَّادَ عَنْ وَطَنِي
اسْألْ إِذَا تَاهَ مَنْ أَغْوَاكَ عَنْ أَمْرِي
فَلْتَأْخُذُوا مِنْ صَدَى قَوْلِي وَمِنْ وَجَعِي
نُصْحًا جَمِيلًا بِهِ يُرْوَى لَكُمْ خَيْرِي
هَذِي اللُّغَاتُ الَّتِي ذُبْتُمْ بِهَا طَرَبًا
لَيْسَتْ بِمِثْلِي وَلَا يَلْهُو بِهَا شَطْرِي
** **
- عضو اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين