لم أعد أكترث لشيء لا يستحق، ولم أعد أطيل النظر إلى أشياء كنت أظنها ذات أهمية، ولم أعد ألاحق السراب الذي أراه بين صفحات عيني، ولم أعد أُكْبِرُ وهمًا رُسم في مخيلتي؛ فالسراب تعالجت عيناي منه ورحل، والوهم صغر وغادر!
لم أعد أنظر إلى الناس بعين واحدة أو اثنتين، بل بعدة أعين، وفي كل الأحوال لا بد أن يكون القلب مبصرًا والفكر حذقًا.
ولم أعد أرسم أحلامي ويداي ترتجفان، ولا أنسج الآمال من خيوط العنكبوت؛ تعلّمتُ من نفسي أن اليد الثابتة أحكم بالرسم، وأن خيوط الحرير أبقى وأجمل بالنسيج!
من يقبل عليك بخير فأقبل عليه إن صدق ودُّه، ومن يصدّ عنك فصُدَّ عنه إن ظهر عداؤه، ولو أن في عينيك الدموع، وفي قلبك الجمرات التي تباعًا ستتلاشى وتنطفئ يومًا ما.
فمن يقبل عليك فسيزرع في قلبك الحب، أو يزيده إن وُجد، ومن يصدّ عنك فستكون حوله الأشواك تعوق، وسيتحول قربك منه جحيمًا، ومن تصدّ عنه وهو يمسك - إن كان يستحق - فائتِه، وإن كان لا يستحق فأَبْعِدْه، ومن يصدّ وأنت تصدّ فاتركه إن كان لا يستحق.
يجب عليَّ أن أحترم رغبات الناس؛ وألّا أثقل عليهم بالمجيء إلا صلةً لرحم لا تُقطع، وأناس قلوبهم طيبة تشترى، ومحبتهم قدر ورفعة، وتواضعهم لا يبلى، هي قلوب لا تُترك وإن أخطؤوا معنا أو أخطأنا نحن بحقهم.
بعض البعد يؤلم، وأحيانًا به نأثم، وإن سُدَّت إليهم الطرق نحاول ألّا نخسر، فربّما - يومًا ما - تُفتح السُّبل معهم ويتجدّد الودّ، أمّا الظلم في العلاقات فهو حديث ذو شجون! وأما غيره فميسور أكثر، فالظالم والمظلوم عادةً لا يلتقيان إلا بعفو أو نسيان وتناسٍ، أو تغاضٍ وتجاوز وتحمُّل، أو لكون القلب نقيًّا متجدّدًا ومتسامحًا، أو لأن مصالح مشتركة تجمعهما، أو لأجل كيد، أو لوجود المسايرة والمداراة، أو أن ما حصل من لقاء جمعهما كان غير مرتَّب وعابرًا.
فالمظلوم أمام مسألة ظلمه وبأن يظلم.. ذلك يجعله يبعد عنه أولئك الأشخاص الذين ظلموه وإن كثروا، ويزيح من حياته الذين آذوه - وإن ندموا - إلا بعفوه، ولا يطلب عودة صلتهم، أو أن يفتح باب وصلهم بسهولة، فالأمر لدى المظلوم كبير إلا بعفو ومسامحة منه تنمُّ عن قوّته لا ضعفه؛ فالعفو يحتاج قوة أكبر وأحيانًا عمرًا أكثر للوصول له ولنيل تلك القوة وهي قوة العفو والتسامح، وفي حالات يحصل من المظلوم عدم مسامحته للظالم مدى الحياة، وفي الآخرة عند الله يجتمعون ولهم لقاء!
إياك والظلم، واحذر عواقبه في الدنيا والآخرة؛ فإنه ظلمات وحسرات وشرور وآثام وذنوب تجرُّ المصائب، وتوقع الكوارث وتنقص السعادة، وتحرم الراحة التامة.. فـ»اتق دعوة المظلوم...».
أما من يفتح لي الأبواب المشروعة - دون زيف وضرر - فسأفتح له ذراعي، ومن يشرق في وجهي فسأضيء له وجهي وبإشراق أكثر حتى لو كان وجهي شاحبًا وقلبي في وادي الحزن، ومن يعتّم عليَّ حياتي فسأضيء أنا حياتي من دونه وأعيش حياتي بعيدًا عنه!
لن أبني جسورًا لمن لم يكلف نفسه أن يبني لي أرضًا صلبة تحتي، ولن أثمر ثمارًا لإنسان يمتنع أن يسقيني، ينتفع من ثماري وأمنيتُه جفافي!
كلا، فلقد تعلمت كثيرًا وعليّ أن أفعل كل ذلك، لكن أعرف أن قلبي - غالبًا - يرقّ، وإنسانيتي وأخلاقي تتدخل، والرحمة عندي تؤثر فيّ جدًّا، لكن هذا لا يعني أن عقلي لا يحكم بالصحيح..
نعم، إني بالله أستعين، وأسأله التوفيق، وأن أسير إلى الوجهة الصحيحة.. وللأمور الرشيدة.. حتى إن كانت بعض الأمور في ظاهرها خير فلا ندري، قد يكون الشر في باطنها؛ لذا اليقظة مطلب دائمًا في كل أحوالي.
تألمت كثيرًا؛ لذا لا أحبّ أن أرى نزفًا لجريح، ولا استغاثة لغريق، ولا حزنًا في قلب منيب أو قلب كليم.
أمدّ يدي للمساعدة - إن كان بمقدوري - لمن فعلًا يحتاج إلى المساعدة، لا خداعًا ولا استغلالًا أو مكيدة.
من لم تكن له نية الخروج من مأزقه فلن يخرج حتى لو قمنا بجرّه فسيظلّ قابعًا في ظلمات الحسرة والضياع.. لكن رحمة الله وسعت كل شيء؛ فقد يخرج يومًا ما، ويسعد بنجاته.
أرى أني رقيقة المشاعر، سريعة البكاء والدموع.. وفي أحيان أخرى تقف الدموع في قلبي وأبكي بصمت مؤلم! لا أدري لِمَ احتبست دموعي وقد كانت المشاعر في عنفوان الوجع!
فإذا بالأيام تأتي، وإذا بدموعي تخرج في أوقات غير أوقاتها؛ فعرفتُ من ذلك أن من واساني قبل أن تجفَّ دمعتي فهو صديقي الحقيقي حتى لو كنت بعيدة عنه فسيقترب، ويحسّ ويشعر بي، ويساند ويفعل الكثير لأجلي ولأجله.
أيقنتُ أنَّ حِضن أمي هو الأكثر أمانًا وأمنًا وحنانًا وصدقًا وسندًا وثباتًا وراحةً وأُنسًا وسعادةً، وهذا فقدتُه بعد فراقها، رحمكِ الله أمي!
وأنَّ صدر والدي هو الأكثر أمانًا وأمنًا وعطفًا وصدقًا وسندًا وثباتًا وسعادةً.. وأدعو الله ببقائه لي عمرًا مديدًا.
أما الناس فهم متفاوتون: منهم أرزاق ونعم، ومنهم أثقال ونقم، ومنهم بين بين، منهم من يجري في طريقه بكدّ، ومنهم من يسير بيسر تحمله عناية الله، ومنهم من يكدُّ وفي مرات تُفتح له الأرزاق بيسر؛ فالأمر غيبيٌّ في علم الله، وعلينا بذل الأسباب للحياة الطيبة، وحتى إن ذقنا مرارة العيش فرحمة الله واسعة، وهو على كل شيء قدير - سبحانه القادر على إسعادنا، وأيضًا على إنقاذنا، وتدبير كل أمورنا.
وكلُّنا تجري علينا الأقدار، والسعيد من أطاع الله وابتعد عن عصيانه، والمحظوظ من صبر وظفر، لا من سخط وعصى وأشقى نفسه.
دائمًا مخافةُ الله نُصْبَ عيني - ولستُ معصومةً - لكنني ألتمس رضاه في كل خطواتي، وأخشى سخطه في كل أحوالي، ولستُ أُكْبِرُ من نفسي بقدر ما هو شعوري أنه توجد بذور الخير رطبةً في داخلي يسقيها الله لتنمو، وقد نَمَتْ قبلها فروع خضراء كثيرة.. وأينعتْ ثمارها.. ولله الحمد.