محمد سليمان العنقري
يواجه الاتحاد الأوروبي أكبر تحد وجودي منذ توقيع معاهدة ماستريخت قبل ثلاثة عقود التي أعلن بموجبها إطلاق هذا التكتل الدولي القوي جداً من حيث الإمكانات الاقتصادية والسياسية فقد استشعرت أوروبا حاجتها للاستقلال عن المصالح الأمريكية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991م وأن أمريكا التي أصبحت القطب الأوحد بالعالم ستتغير توجهاتها واهتماماتها ومصالحها بالمستقبل لتواجه تحدياً جديداً في كيفية حفاظها على مكانتها كأكبر اقتصاد عالمي وأقوى دولة سياسياً وعسكرياً فأوروبا لا تريد أن تكون كياناً يسبح بالفلك الأمريكي مجدداً فالظروف تغيرت ولم يعد هناك خطر كبير يتهدد أوروبا كما كان إبان حقبة السوفيت وفترة الحرب الباردة وحاجتهم للحماية من خطر موسكو السوفيتية بدعم وقبادة من واشنطن زعيمة حلف الناتو الذي يضم معظم دول أوروبا ، فدول الاتحاد التي تبلغ مساحتها مجتمعة قرابة 4,5 مليون كيلومتر مربع وعدد سكانه حوالي 450 مليون نسمة تعتبر نفسها قادرة على أن تنطلق نحو مصالحها التي تناسبها وليس بالضرورة أن تتفق فيها أو تتقاطع مع حليفتها أمريكا فنظرة الأوروبيين للصبن وروسيا وللشرق الأوسط تختلف عن نظرة وتوجه الأمريكيين في عصر النظام العالمي الجديد وحتى تنطلق المجموعة الأوروبية نحو بناء هويتها السياسية الجديدة مع العالم قامت بإطلاق عملة موحدة ضمت أغلب دول الاتحاد وذلك بقصد سياسي وهو تعزيز مبدأ وحدة المصير المشترك ومنع العودة لحقبة الخلافات التي ولدت حروباً طاحنة بينهم في فترات زمنية متباعدة كان أكبرها الحرب العالمية الثانية فبل سبعة عقود.
فأوروبا المتمثلة قوتها بما يضمه اتحادها من دول تمتلك قوة اقتصادية تعد مجتمعة من أكبر اقتصادات العالم بحجم ناتج إجمالي يزيد قليلاً عن 17 تريليون دولار وهو ما حققته دول الاتحاد خلال عام 2021 م لكن سر قوة هذه الدول بامتلاكها للتكنولوجيا وإرثها التاريخي بعلاقاتها الدولية وتأثيرها العالمي الذي بنته في فترة حقبتها الاستعمارية في أغلب قارات العالم فهم من اكتشف قارة أمريكا أو ما يسمى العالم الجديد وسكان دول هذه القارة الذين يحكمونها أغلبهم من أصول أوروبية ولغات دول الاتحاد هي الأكثر انتشاراً عالمياً وتعد الإنجليزية والفرنسية والإسبانية من اللغات الرسمية لدول عديدة بقارات مختلفة فالثقافة الأوروبية واسعة الانتشار لكن أوروبا بكافة دولها تواجه اليوم أكبر تحد حقيقي بعد مجموعة من الأزمات بالقرن الحالي سواء خلافاتها السياسية مع واشنطن بعد أحداث سبتمبر 2001 بأمريكا حول كيفية التعامل مع خطر الإرهاب إذ اعترضت كثير من دول الاتحاد الأعضاء بحلف الناتو على غزو العراق لكنها لم تتمكن من منع أمريكا من القبام بهذه المغامرة التي دمرت دولة مهمة بالشرق الأوسط كما أن الأزمة المالية العالمية في عام 2008 شكلت ضربة اقتصادية موجعة لأوروبا عموماً ولمنطقة اليورو تحديداً التي وصلت لمرحلة التفكير بقبول خروج بعض الدول من العملة الموحدة لحل مشاكلها الاقتصادية كما تعاني دول الاتحاد الأوروبي من ضعف بمعدلات النمو الاقتصادي لأسباب عدة منها التنافسية الدولية مع بزوغ قوة الصين والهند وغيرهما من الاقتصادات الناشئة وقبل ذلك قوة حليفتهما أمريكا إضافة لارتفاع معدل الكهولة بأوروبا عموماً مما يرهق اقتصاداتها من حيث تراجع الاستهلاك الداخلي وزيادة العبء على برامج الحماية الاجتماعية مع تحد يمثل خطراً استراتيجياً وهو تزايد الهجرات غير الشرعية لأوروبا الذي ينذر بتغيير سكاني كبير بالقارة خلال العقود القادمة كما أن أوروبا تبحث عن استقلال بالطاقة وهو ما يفسر توجهها المتسارع نحو الطاقة النظيفة والمتجددة رغم أنها تحصل على الطاقة الرخيصة من روسيا لكنها فضلت الابتعاد عن استيراد الطاقة مهما كانت رخيصة لكي تكون أكثر استقلالية بقراراتها السياسية تحديداً حتى وإن اتخذت توجهها تحت ذريعة ملف المناخ.
لكن أزمة حرب روسيا على أوكرانيا أيقظت أوروبا على حقيقة أن كل ما عملت عليه لإبعاد شبح نشوب حروب بالقارة كان وهماً وأن سياساتها التي توافقت أو تبعت بها أمريكا أوصلتها للحظة اصطدام مع روسيا التي تريد استعادة مكانة الاتحاد اليوفيتي الدولية فهي وريثته الشرعية فهذه الحرب جاءت في فترة حرجة جداً إذ تعاني اقتصاديات أوروبا من ضعف بالنمو نتيجة جائحة كورونا كما أنها لم تستقل عن تأثير روسيا بامنها الاقتصادي المتمثل بإمدادات الطاقة الرخيصة حيث تغذيها روسيا بحوالي 40 في المائة من استهلاكها للغاز و25 في المائة من احتياجاتها البترولية حيث وجدت أوروبا نفسها فجأة في موقف حرج يتطلب منها أن تتخذ إجراءات تفضي لمعاقبة موسكو وعلى رأس تلك العقوبات تقليص مواردها المالية من بيع النفط والغاز لأوروبا وذلك عبر تقليل المشتريات للنفط والغاز الروسي إضافة لأكثر من 6000 عقوبة أدت بالمجمل لرفع معدلات التضخم بالقارة فأسعار الغاز قفزت بعدة أضعاف خلال فترة قصيرة مما أدى لتضخم غير مسبوق بدول أوروبا لم تشهده بعض الدول منذ سبعين عاماً كألمانيا كما أن معدلات النمو تعرضت لانكماش باغلب الدول الأوروبية وبلغ نمو تكتل دول الاتحاد بالربع الثالث لهذا العام معدلات صعيفة جدا عند 0,2 بالمائة بينما عانت أغلب مصانع أوروبا من ارتفاع حاد بالتكاليف وبدأ بعضها يقفل خطوط إنتاجه مؤقتاً أو يفكر بالانتقال خارج أوروبا أو يخرج من السوق نهائياً وعندما فكرت أوروبا بحل سريع اعتمدت على أمريكا بتغطية احتياجها للغاز كبديل لغاز روسيا إلا أن الشركات الأمريكية رفعت الأسعار وأصبحت أوروبا تشتريه بأربعة أضعاف سعر شراء المصانع الأمريكية مما قتل المنافسة بين المنتج الأوروبي والأمريكي لكن رغم وضع خطط لحماية الشركات الأوروبية وكذلك الأسر من ارتفاع أسعار الطاقة إلا أن أمريكا أصدرت قانون الحد من التضخم ليمثل ضربة اصافية لتنافسية المنتجات بين الحليفين الأكبر بالعالم حيث يبلغ حجم التحارة بينهما 1,4 تريليون دولار لدرجة أن وزير مالية ألمانيا صرح بأن هناك احتمالاً لحرب تجارية أوروبية أمريكية بسبب القانون الأمريكي الأخير وشاركه المخاوف من هذا القانون نظيره الفرنسي الذي دعا لحماية اقتصاد أوروبا التي وقعت تحت رحمة أمريكا بأمن الطاقة وهذا ما يمثل تراجعاً كبيراً لفكرة استقلالها السياسي عن واشنطن إذ إن اعتمادهم على أمريكا عسكرياً واقتصادياً بأمن الطاقة تديداً سيطول جداً وهذا ما يضمن لأمريكا بقاء الأوروبيين حلفاء يدعمونها بتوحهاتها ضد الصين تحديداً التي تمثل المنافس الأكبر لأمريكا على زعامة العالم كما يحد من قدرة دول الاتحاد الأوروبي على أن تكون منافساً لأمريكا أيضاً مستقبلاً.
أوروبا أصبحت رهينة لحد ما لمطرقة روسيا التي تريد إعادة أمجادها السابقة وتستغل حاجة أوروبا لطاقتها الرخيصة وسوقها الكبير بالإضافة لسلع عديدة تمتلكها روسيا كالمعادن والسلع الغذائية بحكم مساحتها الضخمة وحجم ثرواتها الكبيرة إضافة لقدرتها العسكرية التي تريد الاستفادة منها لتحقيق طموحاتها وبين سندان الحليف أمريكا التي تريد أن تبقي أوروبا تحت جناحها لكي لا تنافسها لأنها الأقدر على ذلك بحكم تقدمها العلمي والاقتصادي وقدراتها الكبيرة وكذلك لتكون حليفاً مضموناً معها في سياساتها العالمية التي تريد من خلالها البقاء كأقوى دولة بالعالم من خلال احتواء الصين وتحجيم روسيا وتوجيه هذه القوة الهائلة التي تحشدها واشنطن لفرض سباستها بالعالم وتحقيق أهدافها والحفاظ على مصالحها وهو ما يتطلب وجود أوروبا معها بالإضافة لدول حليفة من قارات محتلفة فأوروبا تمر بمأزق يصعب الخروج منه وهناك تخبط واضح بسياسات دول أوروبا وخلافات ليست مخفية ومهما بلغ التماسك والتوافق الحالي من قوة لكنه لن يستمر مع تفاقم المشاكل الاقتصادية واحتمال مواجهة الكثير من دول القارة العجوز لاحتجاجات من شعوبها على التضخم وسوء الأحوال الاقتصادية.