الثقافية - علي القحطاني:
المؤسس والمبادر لفكرة واحتفالية اليوم العالمي للغة العربية 18 ديسمبر الدكتورزياد بن عبد الله الدريس شغل منصب المندوب الدائم للمملكة العربية السعودية لدى منظمة اليونسكو باريس من عام 2006م إلى عام 2016 م ومنح لـقـب “سفير السلام” من الاتحاد من أجل السلام الـعـالمي (UPF)، تثميناً لإسهاماته فـي ترسيخ ثقافـة الـسـلام والـتسـامح والتعددية، من خـلال مشاركاته المنبرية والكـتابية، وتعزيز التنوع الثقافـي واللغوي داخل منظمة اليونسكو. كما كان له اسهاماته في تطوير مجلة «المعرفة» الصادرة عن وزارة التربية والتعليم عقب معاودتها الصدور في مرحلتها الثانية، التقت "الثقافية الجزيرة" بالدكتور زياد الدريس للحديث حول حكاية اليوم العالمي للغة العربية والتعامل مع اللغة بوصفها كائنا حيّا ،وافتقار اللغة العربية للمرجعية الواحدة في ظل تعدّد المجامع اللغوية على خارطة الدول العربية وتأكيده على أولوية تفويض المملكة العربية السعودية (أرض الجزيرة العربية) مهبط الوحي وموطن المعلقات باحتضان منظمة إقليمية تكون مرجع اللغة العربية في هذا العالم كله.
الحكاية
* ما حكاية اليوم العالمي للغة العربية خصوصا لا سيما وأنت المبادر المؤسس للفكرة؟
_منذ أن تشرفت بتأسيس احتفالية اليوم العالمي للغة العربية في العام 2012 م ، كان السؤال الذي يتردد على مسمعي كثيراً هو: كيف استطاع سعودي ذو تجربة دبلوماسية أولى محدودة، أن يبني قراراً دولياً بإنشاء احتفالية، لم تتوقف عند مداها المحلي أو العربي فقط، بل وخلال خمس سنوات فقط من إنشائها أصبحت احتفالية ذات بعد عالمي.من المهم أن أبين للقارئ الكريم أنني لست متخصصاً في اللغة العربية، لكني محب للغة العربية إيمانا مني بما تعلمته في منظمة اليونسكو، من أن اللغة أي لغة، ليست وسيلة للتواصل والتخاطب فقط كما يظن البعض، بل اللغة هوية، أو هي على الأقل مكوّن أساسي من الهوية. ولو كانت اللغات وسيلة تواصل بين البشر فقط لجاز لأىّ إنسان أن يعبّر عن نفسه بأية لغة يختارها دون أن يؤثر ذلك على ترميزات كينونته.الاحتفالية ليس هدفها الاحتفال بالمفهوم المباشر لهذه المفردة، في يوم واحد ومحدد من السنة، بل هدفها إنعاش الشعور بالاعتزاز باللغة العربية، بعد أن كاد هذا أن ينطفئ خلال سنين مضت. ولأننا نتحدث عن شعور وانطفاء وهوية فإننا بديهيا نستهدف في هذه الفعالية بالدرجة الأولى، الشباب من 15-30 سنة،فهؤلاء هم الذين ما زالت أمامهم فرص إجبارية لخوض ( حروب الهويات )التي تجري في عالم ما بعد العولمة
اللغة: الكائن الحيّ
* كيف سنتعامل مع «اللغة» بوصفها كائناً حياً؟
_اللغة تنمو وتتمدد وتتقلص، وتقوى وتضعف وتتجمل أحياناً وتقبح أحياناً أخرى، وتتوالد فتنجب لغات أخرى متفرعة عنها تكون كالإخوان من الأب، أو تنجب لهجات تكون أكثر تماثلاً بينها كالإخوان الأشقاء،واللغة يمكن أن يصيبها في مرحلة من عمرها العقم أو سن اليأس فتصبح عاجزة حتى عن ولادة كلمة واحدةجديدة واللغة قد تموت عندما يصيبها الهزال والضعف، إما بسبب عدم تغذيتها أو بسبب تركها مقعدة وخاملة في مكان مغلق، لا تخرج إلى الهواء الطلق وتخالط الناس وتتفاعل مع جوانب الحياة، فتموت مهملة كما تموت العجائز في دور المسنين
إذا اتفقنا على هذا التصور بالكينونة الحيوية للغة فيمكننا القول إن اللغات تنقرض إما لعجز وضعف فيها عن مواصلة الحياة بكفاءة، أو لعكس ذلك تماماً سيطرتها ونفوذها على الأرض بما يهدد استمرار أو نشوء كائنات أخرى أصغر وأضعف.دعونا نتساءل: هل ما زالت البشرية تلد لغات جديدة؟ وهل يمكن ولادة لغات جديدة من دون السماح بانقراض لغات قديمة؟!لو لم تنقرض اللغات السامية الكبرى كالكنعانية والآرامية هل كانت ستبقى وتعيش اللغات العربية والعبرية التي كادت تكون من اللغات المنقرضة لولا إحيائها في أواخر القرن التاسع عشر ثم ازدهارها مع نشوء إسرائيل. ولو لم تنقرض اللغة اللاتينية التي كانت مهيمنة على كثير من أراضي أوروبا، هل كانت ستولدوتترعرع اللغات الفرنسية والاسبانية والإيطالية المتداولة هل تعاظمت وهيمنت اللاتينية مثلما هيمن الديناصور، ثم انقرضت مثلما انقرض الديناصور ؟
وهل ستصبح اللغة الإنكليزية من خلال هيمنتها على العالم الآن هي الديناصور القادم.. بتعاظمه ثم انقراضه؟!
لكن اللغة العربية كانت قد «تدنصرت» في قرون مضت على رقعة واسعة وممتدة من العالم حتى ما قبل سقوط الأندلس، فلماذا لم تنقرض العربية مثلما انقرضت اللاتينية والهيروغليفية والسومرية وغيرها ؟،يعزو البعض عدم انقراض اللغة العربية إلى حفظها بالقرآن الكريم، كما تعهد الله عزّ وجلّ. ولكن البعض الآخر يرى أن عدم استخدام العربية الكلاسيكية الفصحى بين العرب الآن، واستعاضتهم عنها بلهجات متعددة ومتغايرة أحياناً، هو شكل من أشكال الانقراض وإن لم يكتمل.
المواراة خجلاً
* لماذا يتوارى العربي خجلا من التحدث باللغة العربية عندما يُدعى للمشاركة في المؤتمرات والفعاليات الدولية ؟
_غياب أو ضمور الاعتزاز باللغة العربية عند أهلها، وانجذابهم لاستخدام غيرها حتى عند عدم الحاجة لذلك، كما يحدث في كثير من المؤتمرات أو الاجتماعات الدولية خصوصاً، رغم توفير الترجمة الفورية، هو مؤشر كاف على وجود خلل في علاقة العرب مع لغتهم! ولماذا لا يشعر الإنسان العربي بالفخر في استخدام لغته العربية كما يفعل الفرنسي والأسباني والصيني مثلاً ؟! هل للهزيمة السياسية والتنموية دور في ذلك؟ وهل هو السبب الوحيد أم أن الأسباب الاقتصادية العولمية أكثر تأثيراً في ذلك؟!استخدام اللغة والتحدث بها هو أكبر دليل على الاعتزاز بها ما سوى ذلك من أعمال وأقوال وجهود وبحوث، هي كلها خدمات مكملة للفعل الأساسي الذي هو أن نتكلم.المديح والإطراء الخطابي للغتنا العربية، لا يجدي كثيراً لا في اكتساب المزيد من الناطقين بغيرها ولا في استرجاع المارقين منها. وقد تكون آثاره عكسية خصوصا عندما يتم بناء زخارف المديح للغتنا على ركام النيل من اللغات الأخرى واستصغارها،والمدخل الحقيقي والفعال لرفع مكانة اللغة العربية هو ليس في كثرة مديحها ... بل في كثرة استخدامها.
المرجعية الموحدة
* هل تفتقر اللغة العربية إلى مرجعية موحدة ، وسابقا كانت الجزيرة العربية هي المرجع والمقياس للغة العربية وولدت فيها المعلقات الشعرية الذي ينال اهتماما من الباحثين بعد القرآن الكريم ؟
_أسوأ (ميزة) في اللغة العربية أن لديها اثنين وعشرين مرجعا «دولة» ، كل منها يدعي انه الأغير على لغة القرآن وفي المحافل الدولية وعند الحديث عن اللغات الدولية الست، يُعدّد الفرنسيون الدول الكثيرة الناطقة بلغتهم ثم يذكرون دولة واحدة فقط مرجعية لها، وبالمثل يفعل الإسبان في تعداد الدول الناطقة بلغتهم، خصوصا في أمريكا الجنوبية، ثم يذكرون دولتهم مرجعاً، وكذلك يفعل الروس والصينيون، وإلى حد ما الإنجليز بعد أن تقاسمت معهم الولايات المتحدة الوصاية على اللغة الانجليزية. أما العرب فيعدّدون الدول الناطقة بلغتهم ثم يعدّدون بالكثير من الزهو الدول (العربية) المرجعية للغة العربية تاريخياً، كانت الجزيرة العربية هي المرجع والمقياس للغة العربية وهي التي ولدت فيها (المعلقات) الشعرية التي ما زالت تدرس بوصفها المعيار الكلاسيكي للغة العربية، بعد القرآن الكريم الآن، ومع الوضع السياسي الحديث للعالم العربي تغيرت الأوضاع والآليات وأصبحت الدول العربية تتنافس على إنشاء مجامع للغة العربية في مصر وسوريا والعراق ولبنان والسودان وفلسطين والأردن وليبيا والجزائر وتونس والمغرب. لاحظ غياب دول الجزيرة العربية عن خارطة المجامع اللغوية.أحد عشر مجمعاً لغوياً عربياً للغة واحدة، لا يكادون يؤدون جزءً من الخدمات الحمائية والتطويرية التي تقدمها الأكاديمية الفرنسية وحدها للغة الفرنسية.
التنافس والتضارب في المواقف والآراء هو ديدن هذه المجامع اللغوية المتناثرة، كما أن التعويل على الوكالات الإقليمية المختصة التابعة لجامعة الدول العربية لم يعد ممكنا ‘ فما المخرج أو المدخل لإنشاء منظمة مرجعية واحدة للغة العربية يتم التوافق عليها عربيا مع التمثيل المتنوع لأعضائها، أليس من الأولى تفويض المملكة العربية السعودية (أرض الجزيرة العربية) مهبط الوحي وموطن المعلقات السبع باحتضان منظمة إقليمية تكون مرجع اللغة العربية في هذا العالم كله،الخطوة الأولى لتطوير اللغة العربية، وليس لحمايتها . أن يكون لها (ولي أمر) مسؤول عن حمايتها وتغذيتها، لا أولياء أمور متعددين تصبح اللغة العربية فقط هوكاليتيم بينهم !
تمويل الأمير سلطان
* كان للأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود – يرحمه الله –دور في إنشاء برنامج لدعم اللغة العربية في اليونسكو .. وقام بتمويل أول احتفالية لليوم العالمي للغة العربية ..حدثنا عن هذا الجانب ؟
_ في عام 2006، زار الأمير سلطان بن عبد العزيز . يرحمه الله مدينة باريس. وقد سعدت بالالتقاء به واقتراح إنشاء برنامج لدعم اللغة العربية في اليونسكو للمملكة حيث كنت قد تعينت ذلك العام مندوباً دائماً العربية السعودية لدى اليونسكو (2006-2016م). وقد لمست أن اللغة العربية تعاني من بين اللغات الدولية الست. وبالفعل تشرفت بتأسيس البرنامج الذي موّله الأمير الراحل بثلاثة ملايين دولار، وانطلق يبني حضوراً مختلفاً للغة العربية يليق بمكانتها التاريخية والحضارية. لكن الطموح لم يتوقف عند مجرد تأسيس البرنامج الفريد من نوعه، بل بدأت التفكير في وضع ركيزة مؤسسية تكون رافعة للغة نحو المجد الذي نريده لها كان تأسيس (احتفالية اليوم العالمي للغة العربية في شهر أكتوبر 2012، حيث تشرفت بحمل تلك المبادرة بصفتي نائب رئيس المجلس التنفيذي لليونسكو، وقد قمت مع بعض الزملاء من المندوبين العرب بوضع مسودة قرار يدعو إلى الاحتفال في 18 ديسمبر من كل عام بـ (اليوم العالمي للغة العربية ) . ثم قدّم مشروع القرار إلى المجلس التنفيذي باسم المملكة العربية السعودية والمملكة المغربية رئيس المجموعة العربية حينذاك)، وقد تم اعتماد القرار المقدم بالإجماع،وأعطيت الكلمة لي بعد التصويت بصفتي صاحب الاقتراح، فعبرت عن فرحنا وسرورنا وامتناننا للأشقاء والأصدقاء الذين ساندوا القرار، ثم أعلنتُ بأنه ورغم ضيق الوقت بين تاريخ الاعتماد أكتوبر ووقت الاحتفالية ديسمبر، فإننا لن نتريث في اغتنام المبادرة ولن نؤجل الاحتفال إلى العام المقبل، بل ستكون أول احتفالية لنا باليوم العالمي للغة العربية بعد شهرين فقط من الآن بما ندركه من ترتيبات وتجهيزات،وبالفعل ففي ديسمبر 2012، أقمنا أول احتفالية لليوم العالمي للغة العربية بتمويل من برنامج الأمير سلطان بن عبد العزيز لدعم اللغة العربية، وكانت احتفالية رمزية بسيطة ومحدودة الانتشار ثم استمرت الاحتفالية تتوسع وتتمدد وتزداد انتشاراً بين المدن العربية وفي بعض مدن المهجر، بسرعة تفوق ما كنا نحلم به بعد أن نختار محوراً رئيسياً لاحتفالية كل عام حيث كان في عام 2013 عن اللغة العربية والإعلام) وفي عام 2014 عن (الحرف العربي) وفي عام 2015 كان احتفالنا عن اللغة العربية والعلوم)، وفي عام 2016 عن (توسع انتشار اللغة العربية)، من خلال إبراز الفنون المتعلقة بالكتابة، والتجارب المبدعة في هذا المجال فجاء معرض جمالياتلخط العربي، الذي كان واحداً من أبرز فعاليات اليوم العالمي للغة العربية منذ انطلاقته (وكانت تلك الاحتفالية الخامسة احتفالية تحت إشرافي بعد أن غادرت المنظمة في نهاية هي آخرالعام 2016م).
الآن، وبعد تسع سنوات من نشوء المبادرة، أصبحت اللغة العربية تتنافس في حضورها على المراكز الثلاثة الأولى من بين اللغات الدولية بعد أن كانت تتنافس على المراكز الثلاثة الأخيرة.في احتفالية عام 2015، كانت المفاجأة السارة بإعلان الأمير خالد بن سلطان بن عبد العزيز عن تبرع مؤسسة الأمير سلطان بن عبدالعزيز الخيرية بمبلغ إضافي قدره خمسة ملايين دولار لتعزيز أعمال برنامج اللغة العربية خلال السنوات الخمس المقبلة، ما يعني أننا لن نتوقف عن الاستمرار في تحويل الحلم الصغير إلى حلم كبير بإذن الله شرط أن يشاركنا الجميع في رسم هذا الحلم ... حلم استعادة هيبة اللغة العربية لا بصفتها لغة فحسب، بل بصفتها هوية وسبيلا نحو التقدم والتمكن.والآن، حيث نرى الاحتفالات باليوم العالمي للغة العربية تعمّ المدن العربية كافة، وتصل إلى اندونيسيا والباكستان واليابان وأستراليا والسنغال وجنوب أفريقيا وتركيا وبولندا والمكسيك وبريطانيا وكندا، والكثير من دول العالم، فقد أيقنت أهمية الإصرار على تحقيق الحلم مهما كان صغيرا... فقد يكبره الآخرون.
الانتماء والهوية
* كيف ترى الاحتفال بهذا اليوم المجيد والاعتزاز بالهوية والانتماء للغة العربية بعد كل هذه السنوات ؟
_احتفالية (اليوم العالمي للغة العربية) التي كان لي شرف تأسيسها في العام 2012م. وسعدت بتنظيم الاحتفالية طوال خمس سنوات، وهي تتزايد توسعاً وانتشاراً عاماً بعد آخر. وقد أخافني عدد من المهتمين بأن الاحتفالية ستتوقف عند نهاية مهمتي في المنظمة الدولية، مثلما تنتهي كثير من المبادرات برحيل أصحابها .. انتقالاً إلى عمل آخر أو انتقالا إلى رحمة الله.لكن لحسن الحظ، أن هواجس القلق لم تتحقق وأن الاحتفالية أقيمت في موعدها السنوي 18 ديسمبر) للسنة السادسة، في مقر اليونسكو و في العديد من المدن العربية وغير العربية، تماماً كما حدث في الأعوام السابقة، وأرجو أنها ستستمر للمديد من الأعوام القادمة بإذن الله، بغضّ النظر عن تبدّلات الأشخاص القائمين - عليه
** **
@ali_s_alq