عبدالمحسن بن علي المطلق
..وكم وقع حافر على حافرمما ليس لأحدٍ- بهذه- مزيّة..عدا ذاك الذي (جمع) بين التوظيف والصياغة، أوكما قيل «يعرب و يعذب»على نحو تقريب الجاحظ (إقامة الوزن، وتخيّر اللفظ)، ومن يفعل ذلك وحده من يبرز، أو يبـزّ من بين أولئك الرهط..
إصدار..
(يبدو أن الشعراء أكثروا من التنويع على هذين البيتين اللذين أصبحا ملكًا عامًا).
كذا ساق «فاروق مواسي»، من مادته بعنوان:جولة أدبية مع( بيت) له من الذيوع
دع المقاديرَ تجري في أعَنّتها
ولا تبيتنّ إلا خاليَ البالِ
ما بين غَمضةِ عَين وانتباهتها
يغيّر الله من حالٍ إلى حالِ
وليأتى بعدها بـ(تعليل) مستساغ التعذير لمن يحاكي معنى مُدركا، بل هو قريب، لأنه اشتُـقّ من جملة للجاحظ مشهورة «إن المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، البدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ».
ثم أملى -أي فاروق مواسي- حول تلكما البيتين..و أنهما مما (تتردد على ألسنة الناس، ولا نعرف قائلها تمامًا)-أي هذين البيتين أعلاه-
ثم أمخر مركبته في عباب المقصد..
{{ورد في ألف ليلة وليلة (الليلة 303) على لسان أبي محمد الكسلان:
«اضطجعت في مكاني من التعب، فبينما أنا مضطجع متفكر في أمري وإذا أنا بهاتف أسمع صوته ولا أرى شخصه وهو يقول هذين البيتين(.. السابقين) ولم يذكر الكتاب (مجهول المؤلف) ..من القائل!
في أثناء بحثي وجدت أن أقدم ما وصل إلينا في هذا المعنى ما قاله الطُّغْرائي:
لا تسهرن إذا ما الرزق ضاق ونَمْ
في ظل عيش رقيق ناعم البال
فبين غفوة عين وانتباهتها
يقلّب الدهر من حال إلى حال
غير أن الثعالبي في (التمثيل والمحاضرة) يذكر أن البيت التالي هو لأبي دلف الخزرجي:
هي المقادير تجري في أعنّتها
واصبر فليس لها صبر على حال
كما تردد البيت التالي له في مصادر أخرى:
يومًا تريش خسيس القوم ترفعه
نحو السماء ويومًا تخفض العالي
ثم قرأت لابن نُباتة المصري (ت. 1366م) على نفس الوتر:
و خلّ بالٍ برجوى الطيف مشتغلاً
ولا تبيتنّ إلا خالي البال
ما بين غمضة عين وانتباهتها
يقلّب الهجر من حال إلى حال
اعتبر عبد الله فكري (ت. 1889م) في كتابه
«نظم اللآل في الحكم والأمثال»(1) البيت الأول منهما من بين الحكم والأمثال السائرة ولخصه بقوله:
«خل القدر يفعل ما يشاء، ونم مستريح البال».
يبدو أن الشعراء أكثروا من التنويع على هذين البيتين اللذين أصبحا ملكًا عامًا، وذلك إما بتغير قافيتهما نحو قول الشاعر عبد الله الصيرفي (ت 1904م):
ودَعْ أمورك تجري في أعنتها
وظُنّ خيرًا ولا تسأل عن الخَبَرِ
ما بين غمضة عين وانتباهتها
يغير الله من عسر إلى يُسرِ
من هؤلاء أيضا الشاعر المصري صالح مجدي (ت 1881م) في قوله من قصيدة له:
وهو الذي إن يشا يذهب بقدرته
ينقّل الدهر من حال إلى حال
دع المقادير تجري في أعنتها
ولا تكن يائسا من نيل آمال
وقد خمسها الشاعر ابن شيخان السالمي (ت. 1927)
تجعل النفس حَسرى إلْفَ أَنّتِها
من المقادير إذ جاءت برَنّتها
وتصبحنَّ مُراعاً من أسنّتها
دع المقادير تجري في أعنّتها
ولا تبيتن إلا خاليَ البالِ
وللمقادير أحكام بعادتها
تقضي على كل حال باستحالتها
في أسرع الوقت تغيير لحالتها
ما بين غمضة عين وانتباهتها
يبدّل الله من حال إلى حالِ
لاحظ التغيير في الفعل (يغيّر) – يقلّب، يصرّف
ملاحظة:
من الطريف أن عددًا من المواقع على الشبكة ينسب الشعر إلى شخصية مجهولة – (مسفر بن المهلهل الينبغي)، وتذكر له أبياتًا كنت قد سمعتها من حكّاء في طفولتي، أضعها أمامكم للاطلاع، ولإتمام الصورة وشيوعها:
فكن مع الناس كالميزانِ معتدلاً
ولا تقولن ذا عمي وذا خالي
فالعم من أنت مغمورٌ بنعمتهِ
والخالُ من أنت من أضرارهِ خالِ
ولا يفك الرأس إلا من يـركبه
ولا ترد المنايا كثرة المالِ
ومن المواقع من نسب الشعر للزير سالم في قصته الشعبية المشهورة:
الزير أنشدَ شعراً من ضمائره
العز بالسيفِ ليس العزُّ بالمالِ
المالُ يبني بيوتاً لا عماد لها
والفقرُ يهدِمُ بيتاً سقفه عالي
دَعْ التقاديرَ تجري في أعنتها
ولا تبيتنَ الا خاليَ البالِ
ما بين لحظة عينٍ وانتفاضتها
يغيرُ اللهُ من حالٍ إلى حالِ..}}
موجز..
أو(تعليقي)حول ما تقدم وقد قالته العرب،بلسان صنيعها-.. لا مقالها- ، هذه بين الأستاذ والتلميذ..
يوم أمسى لبيتي سالم الخاسر السوق، و قد كسد فيه بيتي( أستاذه) بشار في الواقعة المعروفة- جدا-، إذ كم دُوّلت بين نُقّـاد الشعر و محبي الأدب، و لا غرو فللبناء الرصين و كـ سبب(لا يخفى)بالغالب الغلبة!
نظم بشار بن برد:
من راقب الناس لم يظفر بحاجتـه
وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
فقام التلميذ(سالم الخاسر) بالتوظيف للمعنى أخذا من هذا البيت، وكأنه سلخه بقوله:
من راقب الناس مات غما
وفاز باللذة الجسور
لأنه(اشتهر بين الناس) بيت التلميذ أكثر من معلمه رغم شهرة وشاعرية بشار بن برد-التي لاتقارن بتلميذه- بل صاح بشار (ذهب والله بيتي، يأخذ المعاني التي تعبت فيها فيكسوها ألفاظاً أخف من ألفاظي لا أرضى عنه).. فما زالوا يسألونه حتى رضي عنه.
وبما يناسب أورد مقالة (جرير)معلقا على بيت «نصيب»:
ألمم بزينب قبل أن يرحل الركب
و قل لها: إن تملّينا فما ملّك القلبُ
وددته(أي هذا البيت) بكذا وكذا من شعري.