د. شاهر النهاري
بداية فكل لغة عالمية تعتبر وحشاً يولد بعد تلاقح ومخاض، وينشأ بين أحضان من يهتمون ويهبون ليبلغوا أحلامهم فيه، وهو على قدر محاسنه التي يرونها، وتمام قوة أعضائه يتنفس ويتغذى ويتحرك ويتعرف على ما حوله مما يؤثر فيه ويغيره، وما يؤطر أجزاء منه، وهو يتشكل ويتغير، ويشب، حتى يصبح المهيمن المسيطر الحاكم بأمره.
وقد يصاب بالتوحد والضعف، وينزوي، أو أن تضيق عليه الحلقات والزوايا، وتدور دوائر الإهمال، ويكثر أعداء من داخله وخارجه بمحاربته، يثخنون جراحه، وقد يقوم بعزة وينتصر، أو أن يستمر عالة على من يحملونه، حتى يموت ويدفن فلا تعود تظهر من حراشف وحشيته إلا حكايات منتثرة، وآثار ونقوش.
واللغة العربية إحدى تلك الوحوش، والتي صاحبتها في طفولتها وشبابها سمة الشفوية في التكوين، فلم يهتم العربي بشقها الثبوتي حرفاً من خلال التدوين، ولم يكن هنالك توثيق حقيقي لخطوات واضحة تبين مسار ترعرعها يستطيع الباحث أن يتكئ عليها من خلال المخطوطات أو النقوش غير المختلف على صحتها.
لغة كان طريقها طويلاً كثير الحكايات والشكوك، والتخيلات، فقال البعض إنها اللغة الأم لآدم عليه السلام، وقال البعض سيدنا إبراهيم، وهذا بالطبع لا يملك عبء الدليل، وقال البعض إنها جنوبية حميرية أتت من اليمن ثم تلاقحت مع الشمال بعد السيل العظيم.
وتشير بعض النظريات إلى أنها من أم آرامية أتت من أرض الرافدين والشام، قبل أن تتمايز عن شقيقتيها السريانية والعبرية.
لغة قيل إن عودها اكتمل بعد الإسلام، ولكن الأشعار الجاهلية -إن صدقت- رواياتها تدل على أنها كانت موجودة بجودة حضارة عظيمة في تلك القصائد والمعلقات، المدهشة المشتملة على جميع متطلبات تكامل اللغة وقدرة التعبير من خلال أسسها وفنونها.
وللأسف أن تلك الأشعار ظلت محفوظة في الذاكرة الشعبية، رغم تكريم عشر منها كتبت بماء الذهب وعلقت على جدار الكعبة، ولكنها اختفت بقدرة قادر، ما جعل الكثير من الباحثين مثل طه حسين يذهبون إلى أن الشعر الجاهلي منحولٌ، تمت صياغته في العصر العباسي، بغرض تثبيت أسس اللغة العربية، وخصوصاً بعد أن ارتفع عدد حروفها من ثمانية عشر إلى ثمانية وعشرين، وأصبحت مكتوبة وعليها نقاط وحركات تشكيل، وأسس نحو وإعراب وصرف، وغيرها من مستلزمات حفظ قوانين ونطق وكتابة اللغة العربية، وتثبيت جوانبها.
أسس لم يكن يعرف عنها العربي البدوي، حينما كان يرتحل، ويرتجل لغته اللفظية بالفطرة، ولكن دخول الأعاجم للدولة الإسلامية العباسية أجبر علماء اللغة على فعل ذلك كله، لتثبيت اللغة ومنع تخلخلها.
وقد قال الكثير إن القرآن نزل من السماء بأحرف ومفردات اللغة العربية، وشهد القرآن في عدة مواضع على أنه كان بلسان عربي مبين، وقد اختلف على معاني «لسان عربي» كون كثير من الآيات تحوي مفردات فارسية مثل (زمهرير، أبابيل، وسجيل، وسرادق، وسراج، وفردوس وسندس واستبرق.. وغيرها) ومن السريانية مثل (طور، فرقان، وغيرها)، ومن اليونانية (دراهم، وإنجيل)، وحتى من الحبشية (شطر)، وتضاربت آراء أهل اللغة والتفسير حيال ذلك، فلا يصلوا لحلول منطقية متفق عليها.
ولعل ذلك يحدث بفعل أن اللغة كما سبق وقلنا، وحشٌ يتغذى على الألفاظ، القريبة منه، والبعيدة، وبقدر تميزه وقوته في القضم والطحن والهضم لا يلبث أن يوظفها ويبني بها مختلف أعضائه، ويجعلها جزءاً من مفرداته المهجنة لصالح كينونته، واستمراريته.
وفي الدراسات الإسلامية وجدنا أن القرآن نزل على ستة أحرف، ثم ارتفع عددها لما هو أكثر، وكالعادة فلم يتفق علماء اللغة والدين على معاني تلك الأحرف، فهل هي لهجات قبائل معينة، وهل ما زالت موجودة أم أن مراحل تجميع القرآن قد وحدتها على حرف واحد؟
الواضح أن لغة أشعار الجاهلية، لم تكن مثل لغة الأيام الأولى للإسلام، وأن ذلك يختلف جذرياً عن لغة زماننا، كون الوقت كفيلاً بزيادة الألفاظ، وربما تحوير أو موت بعضها، ولو حضر جاهليون، أو شخوصٌ من صدر الإسلام، وحاول أشخاص في عصرنا الحاضر أن يتكلموا معهم، فأي لغة وأي مفردات سيستخدمون، وبأي نسبة، وهل هنالك لغة وسطية تجمعهم؟
فلا شك أن الصعوبات في إكمال ذلك الحوار ستتراكم وتعجز، كون اللغة العربية الوحش، تمتلك بشكلها الحالي الكثير من الألفاظ الدخيلة والمترجمات بأغراض التعايش مع المستجدات والمعارف والمخترعات، واختلاط أطرافها مع معظم اللغات الحية الأخرى، ومع اعوجاج اللسان الأعجمي، ما يجعل بالتالي الحوار مستحيلاً مع شخوص الماضي.
وبدرجات أقل، فقد لا نحتاج للذهاب إلى البعد السحيق، فلو حضر شخصٌ عربيٌّ عاش منذ قرنين من الزمان ليحاورونا، فمن المؤكد أن طريقة التواصل معه ستكون عبر لغة منهكة مضحكة متداخلة بالإشارة تجعلها شبه مستحيلة التواصل، وكأنك تتكلم مع شخص من الإسكيمو، لا يدرك إلا عدداً بسيطاً من كلمات العولمة المتوسطة بيننا وبينه.
اللغة الحية الفاعلة لا بد لها من تغيرات بشكل مستمر، وتحور، وتأقلم، والتهام السائغ مما جاورها، حتى يستدير متنها وتستقوي، وتغدو ذات أوجه مختلفة المعالم، وحتى أن قواعد اللغة مهما كانت صلبة، لا بد أن تهتز، وربما يستجد فيها قوانين طارئة تتدخل لضبط الفروق، ولو إلى حين، كون ثبات اللغة أمراً لا يحدث إلا لو كانت منتهية مندثرة ميتة.
لغتنا الشعبية الحالية الحية، لم تعد بلسان عربي، ولو راقبنا أنفسنا لوجدنا أن أغلب كلماتنا إما أجنبية، أو مطعمة محورة، أو مجهولة المصدر، وخصوصاً بعد حدوث صرعة العولمة، والقرية الصغيرة، وقدرة التواصل السحري بين أهل اللغات المختلفة، بما أحدثته تقنيات الانترنت بشكل يجعل الطفل الصغير بيننا، يتخاطب مع أشخاص آخرين من قارات عدة، ولا عجب فقد أصبح بين أيدينا من البرامج والتطبيقات ما يترجم، وما ينطق باللغة، التي تريدها.
اللغة العربية تتناقص عروبتها التراثية، ولكنها حية تثبت ديمومتها عالمياً، رغم أنها حتى على أكبر المستويات الثقافية تختل وتختلف، فكثير من أدبائنا وكتابنا وإعلامينا لم يعودوا يحسنون قواعدها القديمة، وكثير بيننا يخلط بين الفصيح واللهجات، ويحلي لسانه بالأجنبيات، والمحصلة لغة عربية قد تكون مزينة، أو مشوهة حسب العين الناظرة إليها، ولكنا نعود لمماً وفي كل يوم للغة العربية، نحتفل، ونظهر المخطوطات، ونخط اللوحات بجماليات الحرف العربي، ونكتب مقالات حماسية تحن للنبع القديم، والمؤسسات الثقافية تنظر لها نظرة قد تكون هادفة، وقد تكون مجرد تكميل احتفالية يوم أو يومين، قبل أن نعود للغتنا الحالية الهجين.
وحتى لا يكون كلامي نقداً بدون حلول، فلعلي أسطر بعض ما يمكن أن يفعل من أجل لغتنا العربية.
وخلاصة ذلك ضرورة وجود مراكز بحوث لغوية تاريخية تبحث عن الحقيقة بتجرد ومهما كانت صادمة أو منحرفة أو مؤلمة، بوجود باحثين ذوي ألباب منفتحة أمينة، وعلى مستوى المهمة، يبحثون في أصل كل تلك التساؤلات، التي طرحت في هذا المقال، عن نبع بزوغ لغتنا، ومكان وتاريخ وبيئة ومسار وحرف ومستلزمات هذه اللغة ومساراتها حتى بلغت شكلها الحالي.
وأن تكون دراساتهم وإجاباتهم مخلصة صادقة، ودون ما تعودنا من علماء اللغة من تقوقع، ورتابة ودندنة بنفس الكلمات والجمل المكررة، والصور الغيبية، والتي لا علاقة لها بالبحوث العلمية الملموسة المُحكمة، والتي تستحق أن تتبناها وتصرف عليها الجامعات ومراكز البحوث، وأن يتعاون في ذلك جميع المراكز والمتاحف والجهات، التي تمتلك المخطوطات والآثار، حتى تدرس بانفتاح ودون تتبع نتائج وصور مسبقة، فنعيد تأسيس تاريخ ومسار لغتنا العظيمة، والتي استمرت لقرون ظل فيها أجدادنا الأوائل لا يهتمون بالتدوين، والدليل على ذلك قلة المنحوتات باللغة العربية.
دراسات تبدأ بخطوطها المنقرضة، والتي وجدت في نقوش (جميلة الحمادي، وأم الجمال الأولى، والثانية، ونقش النمارة، ونقش معبد رم، ونقش زبد، ونقش أسيس، ونقش حران اللجاة)، ثم دراسة الخطوط المستخدمة منذ المسماري، والكرشوني، والكوفي، والحجازي، وخط الثلث، والمسند، وغيرها مع تحديد الأزمنة، التي ظهرت من خلالها مقارنة بمخطوطات ما يجاورنا من الحضارات القريبة لمزيد من الرؤية، ثم تأكيد علاقة لغتنا باللغات الأخرى السائدة منها والبائدة.
حلم سيتحقق، وجلاء أعين طال غباشها، وركوب قطار اللغة من حيث نحن، بمعرفة للمحطات السابقة، والمحطات، التي تتجه إليها لغتنا.
وهذا ما سيساعدنا على معرفة وتثبيت أسس وخطوات تطور اللغة العربية الوحش، لفظاً وكتابة وقواعدَ، وتأثراً وتأثيراً، واستعادة مراحل التاريخ المحكي لتعديله، وبأخذ الحيطة مما يتم تزويره مؤخراً على بعض صخور الجزيرة العربية، لأغراض مختلفة بفعل من يحاولون تمرير معلومات مغرضة، وكأنها نقوش قديمة، لتغيير قناعات معينة، وإثبات بعض الصور، وحوز القيمة الأثرية، وكل ذلك يمكن كشفه من خلال أدوات وأجهزة وتقنيات علم المخطوطات وعلم الاركيولوجيا، هذا متى ما كانت الأهداف واعية واضحة محققة صادقة، لا تبحث عن إثبات شيء حاصل.
نتمنى بلوغ المعلومات التاريخية الشاملة عن لغتنا الجميلة، وعن تاريخنا الشفوي، فلا نعود نختلف في كل حوار ومناظرة ومناسبة عن أصل لغتنا وفصلها وجزئياتها وتكويناتها.