د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
أصبح من المعتاد المكرر وربما الممل الاحتفال بما يسمى اليوم العالمي للغة العربية، ويذكرني هذا بالسنوية التي اعتادتها بعض الشعوب تتذكر فيها محاسن موتاها وتجري بعض النشاطات في تلك المناسبة.
ليست العربية بحاجة إلى احتفال في يوم يمر كما يقال ولا يضر، بل هي بحاجة إلى احتفال دائم؛ ولا أعني بالاحتفال ما قد يفهم منه أنه إنشاء القصائد وتدبيج المقالات في مدحها والتأكيد على أنها لغة القرآن وأن معرفتها من واجبات الدين، بل أعني بالاحتفال بها الاهتمام بها اهتمامًا يليق بها ويحقق مقتضى الهُوية التي هي من أهم أعمدتها، وإنما يكون ذلك بتمكينها من لغة العلم والعمل؛ إذ الواضح أن اللغة الإنجليزية ما زالت هي لغة العلم في كلياتنا التطبيقية على كثرة المطالبات والنداءات لتكون العربية لغة العلم، ونحن ندرك الإدراك كله أنّ ذلك ربما كان صعبًا حدوثه على نحو مفاجئ وفوري؛ إذ لابد أن يسبق ذلك من التهيئة ما تقتضيه الأمور من ترجمة الأصول المرجعية وإنشاء جهات تكفل المتابعة في كل أمر جديد، وربما نظر إلى هذا القول على أنه حلم من الأحلام؛ ولكن الهمم العالية تحول الأحلام إلى حقائق ملموسة، فلسنا بدعًا بين الشعوب، وليست لغتنا أقل من لغات الأمم التي تدرس العلوم بلغاتها، وليس من بأس أن نستفيد من تلك الأمم، والتحول إن أريد يمكن أن يكون على مهل وبروية تكفل له بإذن الله النجاح، وأي ضير أن يبدأ بهذا اللون من التعليم في شعب إلى جانب الشعب القديمة حتى إذا نجحت التجربة واشتد عودها كان التحول إليها شيئًا فشيئًا.
أما العمل فمن أهم عوامل إحياء اللغة أو إهمالها، وقد ابتلينا وقد أوكل العمل إلى كثير من المتحدثين بالعربية وبشركات ومؤسسات جعلت اللغة الإنجليزية هي لغة العمل فيها؛ لأن هذا يسهل عليها أمر علاقاتها بالعالم غير عابئة بما يكون له من الأثر في تدمير البنية اللغوية العربية ونفي لغة الأمة عن جانب مهم من جوانب النشاط الاجتماعي وهو العمل، كل أمم الأرض يستقبل العاملين من غيرها؛ ولكنهم حين يعملون يطالبون باستعمال لغة البلاد، وإن من أعجب ما يواجهه المواطن في بلادنا عند التقدم للعمل هو اختبار عن معرفته اللغة الأجنبية لا العربية.
إن الاهتمام بلغة العلم والعمل أمر بدهي منطقي؛ إذ يسعى الإنسان إلى ما ينفعه منفعة مباشرة، فتراه يقبل على اللغة الأجنبية لا حبًّا بها ولا كلفًا بجرسها بل لأن معرفتها شرط في قبوله العمل وعمله معتمد عليها فهي لسان المعاملات والمراسلات، وإنك لترى التعامل مع الجمهور أساسه اللغة الأجنبية وإن جعل شيء من ذلك بالعربية فهو من باب النافلة وهو استجابة لتوجيهات مفروضة وليس قناعة بالأهمية.
وجد في مجتمعنا خطب جلل وهو نشوء جيل لا يتحدث العربية وهو بين ظهراني أهلها لأنه عزل في بيئة إنجليزية محكمة حرمته من تلقي العربية إذ هو في منزل يخاطبه أهله بالإنجليزية والعمالة التي تباشر خدمته تتحدث الإنجليزية والمدرسة التي يتلقى علومه فيها لغتها الأساسية الإنجليزية وهذا في غفلة من الأهل أو سدر أو إهمال أو تعمد ظنًّا أنهم يصنعون خيرًا بتأهيل أبنائهم للعمل في جهات لغتها الإنجليزية، وهكذا نشأ جيل انبتت صلته بتراثه وانعزل عن مجتمعه. ولست أعلم ما سيكون مصير هؤلاء في مجتمعهم الذي لن يخاطبهم بالإنجليزية في كل الأحوال. وأنا أناشد أولي الأمر متخذي القرار في هذه الدولة الرشيدة أن تقف وقفة حازمة أمام هذه الظاهرة بمنع تعلم السعوديين في المدارس الأجنبية، وإلزام الجامعات أن تجعل قبولها مقصورًا على الناطقين بالعربية.
هذه أمور جوهرية تستحق الاحتفال أي الاهتمام بها ومعالجتها معالجة حكيمة إن أردنا لأمتنا أن تستقيم هويتها وأن تستديم أحوالها بخير وأمان.