حامد أحمد الشريف
في إطار حديثنا عن صناعة القصّة القصيرة كان لا بدّ من تناول اللّغة الأدبيّة التي لا يستقيم أيّ عمل أدبيّ بدونها، وإنّما أخّرت الحديث عنها حتى تكون الحلقة الأخيرة التي نختم بها رؤيتنا المتواضعة حول صناعة القصّة. دفعني لذلك شموليّة اللّغة وارتباطها بكلّ الأجناس الأدبيّة (شعرًا ونثرًا) دون استثناء، وبالدرجة نفسها من الأهميّة؛ ما يعني أنّ حديثًا كهذا يحتاج أن يكون خاتمة لكلّ قول، فاللّغة هي الأساس الذي لا تُقبل الأعمال الأدبيّة كافّة بدونها، ونخصّ منها في حديثنا هنا، الأعمال السرديّة التي ترتبط قيمتها الحقيقيّة بلغتها بالدرجة الأولى، ولن ينجّيها أو يبرّئ ذمّتها التزامها بكلّ عناصر السرد الأخرى، إن هي أخفقت فيها. وإنّما دفعنا للتعجيل بهذا المقال، الاحتفال باللّغة العربيّة، وتضامني مع مجلّتنا الجزيرة الثقافيّة في تخصيصها هذا العدد كاملًا للحديث عنها ومنحها شيئًا ولو بسيطًا ممّا تستحقّه.
إنّ حديثًا كهذا يتعلّق باللّغة الأدبيّة لم يكن مقبولًا في فترات سابقة، أيّام عزّ اللّغة العربيّة وسيادتها، على الأقلّ في أروقة الأدب وبين رجالاته على اختلاف مشاربهم وثقافاتهم وتوجّهاتهم وانتماءاتهم وتنوّع الأجناس الأدبيّة التي برعوا فيها؛ فالأدب كان حينها للأدباء، والقلم لا يبحر إلّا في أيديهم، ولا يسكب مداده إلّا استجابة لهم. وكان الشعر متنفّسهم، اتّخذوه مطيّة يوصلون رسائلهم العميقة من خلاله، بشكل مباشر وغير مباشر. ولقد قيل قديمًا «الشعر ديوان العرب»، تماهيًا مع التسمية التي أتى بها عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - في قوله المأثور: «إذا قرأتم شيئًا من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب؛ فإنّ الشعر ديوان العرب» (انتهى كلامه). ثمّ خلّد هذه المقولة الشاعر العباسي أبو فراس الحمداني، في أحد أبياته الشهيرة حيث قال:
الشِعرُ ديوانُ العَرَب أَبَدًا وَعُنوانُ الأَدَب
لَم أَعدُ فيهِ مَفاخِري وَمَديحَ آبائي النُجُب
بالطبع لا تزال لهذه العبارة قيمتها، وإن كان السرد قد بدأ يُزيح الشعر عن عرشه، ويحتلّ مكانه؛ ويُعتقد بأنّ السرد، في هذه الحقبة، أصبح هو ديوان العرب، لسهولته، وقدرته على الإلمام بكامل المشهد بكلّ تفصيلاته، وتستّره خلف التخيّليّة لتمرير ما يراد تمريره دون نسبته لقائله؛ عكس ما يحدث مع الشعر الذي يظلّ مرتبطًا بصاحبه، ولا يُنظر إلى حكاياته إلّا كتجارب شخصيّة عاشها الشاعر واكتوى بنارها، فلا ينفع الناظم هروبُه من هذه الحقائق؛ بينما لا يكون الأمر كذلك في السرد الذي يسهل الاختباء خلفه، كما فعل عباس العقّاد في قصّته «سارة» التي صفّى من خلالها حساباته مع حبيبته مديحة يسري - كما يشاع - فكتبها قصّة تخيُّليّة ولم يكتبها شعرًا، وإن لم يستطع بفعله ذلك حجب الحقيقة؛ فالعقّاد - كما هو معلوم - لم يكن من أولئك الرجال الذين يحسنون إخفاء مشاعرهم، وكرهه ومحبّته معروفان من القاصي والداني، إذ ينثر أخباره على صفحات الصحف، ويردّدها في مجالسه، وقد يذهب بها إلى أصحابها. ولكن، ما فشل العقّاد في إخفائه نجح فيه كثيرون غيره، ممّن مرّروا خلال السرد قصصهم السيريّة دون أن يعلم بها أحد.
الشاهد هنا، أنّ الأجناس الأدبيّة كانت في ما مضى بوّابات ينفذ من خلالها الأدباء وأهل اللّغة لقول كلمتهم، مستخدمين ما حباهم المولى من قدرة على توظيف اللّغة العربيّة في إيصال رسائلهم، وخلق جسور توصلهم بقرّائهم، وكان الحديث حينها عن أهمّيّة اللّغة وتصنيفاتها، تبعًا لمتنها، يُعَدّ أمرًا مضحكًا؛ فالأدب هو اللّغة، واللّغة هي الأدب، ولا انفصام بينهما.
اليوم لم تعد الصورة بهذا الوضوح، ذلك أنّ عددًا من المنشورات الأدبيّة - أكانت كتبًا أو مقالات أو آراء - هي أبعد ما تكون عن اللّغة الأدبيّة الرصينة التي تعَدّ وعاءً جامعًا لا يُقبل بدونه أيُّ عمل أدبيّ مهما كان إتقانه أو قيمته العلميّة. والسؤال المهمّ هنا هو: ما المعنى الاصطلاحي للّغة الأدبيّة؟ هل نعني بذلك استخدام مفردات عربيّة فصيحة فقط، والابتعاد عن اللحن في القول؟!
بالطبع يستحيل أن يكون هذا مقصدنا من اللغة الأدبيّة، وإن كان من أهمّ شروطها استخدام المفردات الفصيحة وعدم الوقوع في الأخطاء الإملائيّة واللغويّة؛ فاللّغة الأدبيّة بمعناها الاصطلاحيّ الشامل - من وجهة نظري - تعني الوعاء الشاعري الجميل والمتقن والبسيط والمفهوم والأصيل الذي يستخدمه الكاتب لنقل أفكاره ومشاعره وفلسفته الحياتيّة للمتلقّين، من خلال أجناس الأدب المتعدّدة. ما يعني أنّ اللّغة الأدبيّة لها اشتراطات متعدّدة تتجاوز سلامة اللّغة وفصاحتها، وتذهب بنا باتّجاه نبضها الحيّ وعدم جمودها؛ فاللّغة الأدبيّة التي نستهدفها بهذا المقال تخاطب وجداننا أكثر ممّا تخاطب عقولنا، عكس ما نراه في اللّغة الاقتصاديّة أو الطبيّة على سبيل المثال، حيث نجدها لا تهتمّ بهذا الجانب، وتشتغل على العقل بدرجة كبيرة، كونها تحتاج لمخاطبته والتفاهم معه. بينما في الأدب، أكثر ما يخاطَب هو الشعور الإنساني، لذلك تسقط أيّ قطعة أدبيّة لا تحقّق هذا الاندماج الوجداني بين الكاتب والمتلقّي؛ ويقينًا في مثل هذه الاشتراطات لا نحتاج إلى وصاية للتأكّد منها، فما يُكتب من القلب يصل إلى القلب مباشرة، وما يكتبه العقل لا يقرأه غير العقل، والأرقام والحقائق العلميّة هي لغة عقليّة بامتياز، يسقطها مخاطبتها للعاطفة.
على أيّة حال، لا بدّ أن نعي أنّ تغذية كتاباتنا بالمشاعر ليس ترفًا، وإنّما هو واجبٌ حتميّ لا تستقيم كتاباتنا الأدبيّة بدونه؛ وتحقيق ذلك ليس صعبًا، فبقدر انتقائيّتنا القرائيّة وتدفّقها وديمومتها، وإحساسنا بمحيطنا البشريّ وتفاعلنا معه التفاعل الأمثل، تأتي لغتنا الأدبيّة فيّاضة بالمشاعر، مع ضرورة تدخّلنا في صناعتها بالقدر المناسب، حتى نبقيها خالية من التكلّف والاستعلاء والتقعير الممجوج الذي قد نقع فيه دون قصد؛ فالعُجب داء قلَّ من ينجو منه، وقد تفضحه كتاباتنا إن لم نكن حرّاسًا عليها، والمشاعر - يقينًا - يظهرُ زيفها إن اختلطت بشيء من ذلك، فالأدب عامّة لا ينسجم مع كلّ ذلك التحذلق الكتابيّ، فضلًا عن رفضها في مجمل الكتابات، لكنّه هنا يكون قاتلاً إذ يُفقد النصوص حميميّتها واتّصالها بالقارئ.
إنّ تجاوزنا الشاعريّة في لغة الكتابة، وتأكّدنا من وجودها بالقدر المطلوب دون إفراط ولا تفريط، لا يمنح مقطوعاتنا الأدبيّة صكّ المرور، فاللّغة الأدبيّة لها احتياجات أخرى مهمّة، حالها حال باقي اللّغات الكتابيّة التي ترتكز بداية على الإتقان الذي يُظهره خلوُّها من المفردات العامّيّة أو ما شابه - اللهمّ إن لم تكن لغرض فنّيّ يخدم النصّ - وسلامتها نحوًا وصرفًا، فهذا ممّا لا خلاف عليه بين فقهاء اللّغة، وإن كان ذلك يعدُّ الأسهل من بين كلّ الاشتراطات، إذ غالبًا ما ينهض بهذا الدور مدقّق لغويّ يمتلك الخبرة والدراية المناسبة ويعوّض ما سقط من الكاتب، ما يجعل تجاوزه أمرًا هيّنًا مقارنة بما يليه من اشتراطات يتميّز من خلالها الكُتاب؛ فاللّغة العربيّة بحر متلاطم من المفردات والتراكيب والأساليب، كما قال عنها حافظ إبراهيم - يرحمه الله - في قصيدته الشهيرة «اللّغة العربيّة تنعي حظّها»، حيث لخّص في بيت رائع ما تعنيه لنا، وما تحتاجه منّا لتقديمها إلى العالم كلّه، ومنحها المكانة التي تستحقّها، عندما قال:
أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ
فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي
إنّ حافظ إبراهيم في أبياته هذه كان ملهَمًا بشكل كبير، وهو يذكر لنا احتياجًا مهمًّا لا غنى للّغة الأدبيّة عنه، أعني بذلك جزالة اللّفظ، وحسن توظيفه، وجماله، وقدرته على إيصال المعاني بدقّة، وعدم تحميل اللّغة ما لا تحتمله. ولعلّي أستسمحكم في الوقوف قليلًا على هذا البيت الرائع الذي قال الكثير عن اللّغة الأدبيّة وأهمّ صفة من صفاتها، عندما طبّق ما يريده على نفسه، فأنصف اللّغة، وأظهر مكانتها، وبيّن لنا كيف السبيل إلى إتقانها والتعامل معها، وأوقفنا على أهمّ اشتراطاتها، وهي: ديناميكيّة اللّغة، وحسن توظيفها، واستخدامها كحلقة وصل تربط القائل بالمتلقّي؛ فالشاعر هنا أوكل بدايةً للّغة العربيّة مهمّة الحديث عن نفسها، وتنحّى جانبًا. وفي ظنّي، لم يكن ذلك صدفة محض، فكما هو معلوم، إنّ الإنسان أكثرُ علمًا بنفسه، وأقدرُ على التعريف بها، إن التمس الصدق في قوله. لذلك، لم يكن مناسبًا قوله «هي البحر» وإسناد القول للشاعر الذي قد يكون مفتونًا باللّغة العربيّة دون وجه حق، ووظّف محبّته لها لرفع مكانتها وإعلاء شأنها، فكان في استخدام ضمير المتكلّم «أنا» الضمانة لقوّة التأثير في المتلقّي، وكان خيارًا موفّقًا لمنح ما سيقال قوّة ومصداقيّة. وكانت اللّغة العربيّة على قدر المسؤوليّة، إذ شبّهت نفسها بالبحر في إشارة لحجمها الهائل، وهي محقّة في ذلك كونها من أكثر لغات العالم اشتقاقًا وتصريفًا، فضلًا عن عدد مفرداتها ومترادفاتها التي لا يمكن حصرها؛ لكنّها استدركت حتى لا يأتي من يكذّب قولها، فأخبرتنا بما نحتاجه للتعامل مع هذا البحر المليء بالكنوز والذي قد لا يرى البعض ما يجود به، ويشعر بنضوبه، مشيرة من خلال قولها «في أحشائه الدرّ كامن»، إلى أنّ كنوز اللّغة تظلّ ساكنة بلا حراك، حتى يأتي من يكتشفها؛ فالصيد الذي يلتقطه كلّ صيّاد يباع بأبخس الأثمان، بينما النفائس التي لا يمكن الوصول إليها إلّا بصعوبة بالغة، ترتفع قيمتها؛ كما جاء التشبيه بليغًا عندما أخبرتنا أنّها لا تمنح كنوزها إلّا لمن يستحقّها، والمستحقّ هو هذا الغوّاص الماهر، الذي أشارت إليه في قولها: «فهل سألوا الغوّاص»؟ وعنت بذلك أنّ المنقّب الموكلة إليه مهمّة العثور على هذه الكنوز لا بدّ أن يمتلك القدرة على سبر الأغوار، والنفاذ إلى الأعماق السحيقة، في بحثه عن هذه الكنوز؛ ولم تكتفِ بذلك في حديثها عن صعوبة التعاطي الإبداعيّ معها، بل أخبرتنا أنّ هذا الغوّاص ليوفّق في مهمّته، ويستطيع استخراج ما تخبّئه في جوفها إن لم يمتلك المجالدة والصبر، والقوّة الكافية التي تخوّله البحث عن مفرداتها الجميلة، بوضعها الأصداف حائلًا بينه وبين تحقيق مبتغاه، وهو وصف غاية في الروعة، فالأصداف عادة ما تكون محكمة الإغلاق، يصعب فتحها والوصول إلى ما بداخلها، ويحتاج الناهض بهذا الأمر إلى قوّة وعزيمة، وإصرار كبير، حتى ينجح في تحقيق هدفه، لا سيّما أنّ ذلك يحصل في أعماق سحيقة يعاني الباحث فيها من ضغط هائل، وضيق في التنفّس، وارتهان للوقت في إنجاز ما أوكل إليه، ما يجعل المهمّة تبدو صعبة جدًّا.
كانت اللّغة العربيّة في البيت الشعري الآنف الذكر، دقيقة في وصفها، وبيّنت سبب قصورنا عن توظيفها في نشاطاتنا الحياتيّة المختلفة، ونسبت هذا القصور لنا، مبرّئة نفسها منه، وهي بالفعل صادقة في ذلك؛ فاللّغة العربيّة تعدّ بحرًا متلاطمًا يصعب تقدير حجمه، ويلزمه غوّاصون مهرة قادرون على استخراج الدرر من أحشائه. كان ذلك بالطبع في زمن حافظ إبراهيم وأحمد شوقي وفطاحلة اللّغة وروّادها... فكيف بنا الآن وقد فرّط فيها أهلها، وأصبحوا أكثر جهلًا بها، وعدم قدرة على الدفاع عنها؟! بل أصبح أحدهم يُظهر ثقافته متبجّحًا بالمفردات الأجنبيّة التي يُقحمها في حواراته واستشهداته، لاعتقاده أنّ قيمته الحقيقيّة تأتي من خلالها، ممّا يجعلنا ندرك تمامًا أنّنا نحتاج بالفعل للحديث عن اللّغة العربيّة في يوم الاحتفاء بها أو في كلّ يوم، طالما لم يعد شرطًا للكتابة الإلمام بأبسط قواعدها، وحفظ الشائع من مفرداتها، عندما نجدها قد اختلطت بلغات أخرى، وتوارت خلف اللهجات المحلّيّة التي توشك أن تقضي عليها.
بالطبع الحديث يطول عن اللّغة الأدبيّة، ولا يمكن في هذه العجالة الإلمام بكلّ اشتراطاتها. ولعلّي أوجز بعضًا من تلك الأسس التي لا حياة للّغة الأدبيّة بدونها، كالأصالة التي نعني بها إتياننا بمفردات غير متداولة بكثرة، واستخدامها وإعادة بثّها ونشرها إحياءً لها، فالكتابة الأدبيّة تُعرف قيمتها من تفرُّد تراكيبها وأساليبها، وصورها الشعريّة، وبلاغتها ولكن دون إفراط، حتى لا نخلّ بوجدانيّة الكتابة وقربها من المتلقّي، واتّصالها الفعّال معه الذي يصنّف من الاشتراطات المهمّة التي لا تكتمل اللّغة الأدبيّة بدونه؛ فالتكلّف الذي يفتك بعرى التواصل بين القارئ والكاتب يعَدّ قاتلًا لكلّ جمال مهما كانت قيمته. كذلك نحتاج في حديثنا عن اشتراطات اللّغة الأدبيّة إلى المشهديّة الشعريّة التي لا قيمة للكتابة الأدبيّة بدونها، والحديث يطول عنها، وإن كان في قصيدة حافظ ما يغنينا عن أيّ شرح، إذ يكفي الاستدلال بأحد أبيات قصيدته هذه التي رسمت علاقتنا ككتّاب باللّغة العربيّة، وعرّت ضعفنا أمام قوّتها، ونضوبنا أمام غزارتها، حين قال:
رَمَوني بِعُقمٍ في الشَبابِ وَلَيتَني
عَقِمتُ فَلَم أَجزَع لِقَولِ عُداتي
وفي مجال السرد يكفي الاستشهاد بعبارة جميلة أوردها الدكتور حسن حجاب في قصّته القصيرة «خلف الزجاج العاكس»، حين قال: «استيقظت من النوم فزعًا، غارقًا في الندم، ومثقلًا بالهزيمة ومهيّأً للموت». كما نلاحظ، انسكبت العبارة كالماء الرقراق، ولامست شغاف قلوبنا، واتصلت بنا، فشعرنا بجمالها الأخّاذ، ومعانيها المكتنزة، ودقّتها، وبلاغتها، ممّا أضفى عليها الشاعريّة التي لا تستقيم اللّغة الأدبيّة بدونها.
لعلّي أضيف أيضًا أنّ هذه اللّغة الأدبيّة المرجوّة والمنفصلة عن سياقها اللغوي والدلالي، والمعنيّة بالأدب دون غيره، تحتاج للخيال كعنصر مهمّ جدًّا لا يكتمل جمالها بدونه؛ فالواقعيّة وإن كانت غير مرفوضة في الكتابة الأدبيّة، إلّا أنّ نقل الواقع كما هو دون تصرّف يمنحه صفة السطحيّة، ويقلّل من قيمته، بل قد يُخرج النصّ من سياقه الأدبيّ ويرمي به في غياهب الكتابات العامّيّة المبتذلة التي يجيد سردها العوامّ، وربّما ينقلونها بطريقة أجمل ممّن خلط بينها وبين اللّغة الفصيحة، ونقل لنا الواقع كما هو. وأقلّ ما قد يسبّبه الجنوح بعيدًا عن الخيال هو جفاف عباراتنا، وبالتالي عدم التماهي معها، وفقدان القارئ للاتّصال مع أفكارها ومغازيها. وتكمن أهمّيّة الخيال في الكتابة الإبداعيّة في أنّه الوحيد القادر على منح الكتابة عمقًا مثريًا بدون تكلّف، فبواسطتها يمكننا تحميل المفرداتِ معانيَ متعدّدة تبتعد عن ظاهرها السطحي كما نجده في المثال السابق للدكتور حسن حجاب؛ فالغرق فعل واقعيّ أتى به السارد في هيئة تخيّليّة عندما جعل من الندم بحرًا يتطلّب القدرة على السباحة للنجاة منه، وكذلك تصويره الهزيمة، وهي أمر معنويّ، في هيئة حسّيّة، له ثقل يجثم على صدره ويكاد يخنقه... كلّ ذلك إنّما كان بسبب الخيال الذي جعلنا نستخدم مفردات واقعيّة بطريقة خياليّة منحتها عمقًا وجمالًا، وحقّقنا من خلالها أكثر من اشتراطة للّغة الأدبيّة.
خلاصة القول في ما يتعلّق بالخيال، أنّه عنصر مهمّ لجمال اللّغة الأدبيّة، وتمكُّنها، وقدرتها على التعبير عن الأقلام التي دوّنتها. بالطبع يحضر معنا من خلال المثال السابق الجميل، قدرة الكاتب على توظيف فنون البلاغة في التشبيهات التي استخدمها بسلاسة وبدون تكلّف، وهو ما يشير صراحة إلى أنّ اللّغة الأدبيّة لا يكتمل جمالها من دون اشتمالها أيضًا على البلاغة اللفظيّة بكافّة صورها وأشكالها، وبما يتلاءم مع المشهد المسرود دون إكثار أو تقليل. ولعلّي أعود إلى الحديث مفصّلا باستشهادات واقعيّة، من خلال استعراضي للمجموعة القصصيّة «أضغاث أحلام» للدكتور حسن حجاب الحازمي، في مقال مستقلّ، إذ فيها ما يغنينا عن الكثير من الكلام.
ولعلّي أختم في هذا الباب بالقول، إنّ غياب القافية والموسيقى الشعريّة والوزن في النثر لا يعني أنّ كتابته لا ضابط لها وتحتمل كلّ ما يُكتب بعيدًا عن الشعر، بل على العكس، يمكن لضوابط الشعر أن تقوّم اعوجاجه، وتؤطّره على اشتراطات اللّغة، وتأخذ بقلمه للنجاة بمداده من مقصلة النقّاد والقرّاء المتذوّقين، فتصبح اللّغة الأدبيّة في الشعر أيسر وأقلّ مؤونة، وقد لا تغيب عن فصيح شعرنا، ما تعامد منه وما تحرّر من بعض قيوده؛ بينما لا نجد ذلك في النثر بأنواعه، حيث أنّ غياب الضوابط الشعريّة سمح بالتطاول على لغتنا العربيّة، وإقحام بعض الكتابات السيّئة فيها، والبعيدة عن جمالها، ظلمًا وعدوانًا، حيث استسهل البعض الصيد من الشاطئ ولم يكلّفوا أنفسهم عناء الغوص في أعماق البحر.
لا بدّ من القول انّ علينا جميعًا إتقان لغتنا العربيّة أوّلًا، ومعرفة قيمتها الحقيقيّة، وقدراتها الدلاليّة والأسلوبيّة الهائلة، والسيميائيّات التي تستطيع غرسها في نصوصنا. وعندما نتقن ذلك، يمكننا الانطلاق في كتاباتنا؛ فاللّغة الأدبيّة هي ما نحتاجه بالدرجة الأولى، قبل شروعنا في تجنيس كتاباتنا وتعلّم مهاراتها.