أ.د.عبدالرزاق الصاعدي
بلادنا السعودية غنية بإرثها اللغوي الشفهي والتنوّع اللهجي، ولم تزل لهجاتنا متصلةً بأصولها في المستويين الصوتي والصرفي إلى زماننا هذا، وكانت إلى عهد قريب نقية طرية قبل طغيان اللغة البيضاء، لغة العولمة والإعلام، وإنّ الناظر في أحوالها يراها نابتة في حِمى الفصحى، على الرغم مما اعتراها ومتغيرات الحياة، بفعل الزمن، فهي في ظاهرها معاصرة ولكنها قديمة، ولا ريب في أن ثمة تغييرا وتطورا صوتيا ودلاليا وصرفيا ونحويا أصابها، لكنها لم تزل محافظة على أصولها، وبخاصة في الألفاظ ودلالاتها، ويستطيع الباحث اللغوي الحصيف أن ينفض عنها غبار السنين ويميز الفصيح منها من العامّيّ الملحون، ويرصد الفوائت الظنّيّة المختبئة في ركام ألفاظها، وبخاصة ما في لهجات المنبعيين.
ويمكن تشبيه الفصحى بأنها نهر العربيّة الكبير، ويمكن تشبيه اللهجات بأنها روافد ذلك النهر، ويمكن تشبيه العامّيّات بالزَّبَد والأوحال والأوشاب التي تحتشد على ضفاف النهر والجداول. لقد أمدّتْ لهجاتُ القبائل منذ العصر الجاهلي العربيّة بما تحتاج إليه ومكّنتها من الأطيَب والأكمل والأوفق لمعاييرها ونظامها النحويّ والصرفيّ، وأثرتها بالتنوّع الصوتيّ والصرفيّ والنحويّ، وأمدّتها بالمفردات والدلالة والأساليب، فاتّسع نحو العربيّة وتصريفها وبلغ معجمها من الثراء حدًّا لا مثيل له، ونَعِمَ الشعراءُ بهذا التنوّع اللهجيّ الذي يتيح لهم التصرّف في فنون القول والإنشاد، فأدرك علماء العربيّة منذ وقت مبكر قيمة اللهجات وصلتها الوثيقة بالفصحى، وألّفوا فيها مؤلفات، وشافهوا بعض القبائل، ونقلوا عنهم وصنّفوا ما بأيديهم منها فوصفوا وحرّروا وميّزوا، ورأيناهم يتحدّثون عن الفيصح والأفصح والضعيف والأضعف واللغة واللغيّة، وكان لقبائل نجد والحجاز والسراة وتهامة قصب السبق فيما نُقل وأُمرّتْ عليه المعايير، وكانت لغاتهم أثيرةً عند اللغويّين؛ لأنّها من المنبع النقيّ للهجات الفصيحة التي تشكّلت منها اللغة النموذجيّة في كنف قريش وثقيف وهذيل، ولم يزل اللغويّون والمعجميّون في زماننا يفتّشون في لهجات المنبعيّين ويبحثون عن الفوائت الظنّيّة وبعض الظواهر الصوتيّة التي وصفها اللغويّون الأوائل.
ويكفي لغات القبائل أو ما يسمّيه اللغويّون اليوم اللهجات أنْ يكون لها حظٌّ في القرآن وتلاوته، ويكفيها أنّ في بعض ألفاظها ما قد يَهدي إلى فهم نصّ من القرآن أو الحديث، أو تبيان قاعدة لغويّة أو نحويّة أو ترجيح خلاف أو حسم نزاع، أو قبول رأي شاذّ أو ردّه، ولم يزل هذا هو شأن لهجات المنبعيّين في جزيرة العرب إلى عصر قريب، ففي لهجاتهم ما يعين على فهم النصوص وأشعار العرب القديمة ويصحّح بعض الشروح التي لم يفهم أصحابها قول شاعرٍ على وجهه الصحيح لخفاء كلمة لم تدوّنها المعاجم أو لم تدوّن معناها.
ولم تندثر لهجات القبائل في بلاد المنبع، لقد قاومت الزمانَ وتبدُّلَ الأحوال، وصارعت الفناء، فحافظت على كثير من خصائصها باستثناء الإعراب الذي فُقِدَ بعد عصور الاحتجاج، وكانت اللهجات بين الفصحى والعامّيّات كاللُحمة بين السَّدَى في عمل الحائك مختلطةً بالعامّيّات التي تطغى على مستويات الخطاب في بلاد العرب كلّها، ففي اللهجات عامّيّات وفي العامّيّات لهجات، لا يميزها إلا باحث متمرّس، فاللهجة امتداد لمستويات لهجية قديمة، كالظواهر الصوتية التي رصدها علماؤنا في عصور الاحتجاج كالإمالة والإتباع والإشباع والإدغام والإبدال والهمز والتخفيف والوقف والعنعنة والكشكشة والكسكسة والفحفحة والطمطمانية، ونحو ذلك، والظواهر الصرفية كتداخل لغات عين المضارع، وأبنية المصادر والجموع والنسب والتصغير والحذف والقلب المكاني والظواهر النحوية، كلغة أكلوني البراغيث، ولغة إلزام المثنى الألف في كلّ الأحوال، ونحو ذلك من التنوّعات اللهجية لقبائل العرب، وهو كثير رُصد أكثره وفات رصد بعضه، فللهجة أصلٌ قديم معلوم، وأما العامّيّة فمخالفة لمعايير العربيّة وإن كان تهذيب بعضها وتقريبه من الفصحى أو الفصيحة ممكننا.وعند تحليل اللغة المحكية الدارجة للكشف عن مستوياتها في الفصاحة نجدها تحتوى على أربعةِ مستويات: الفصحى، واللهجات، والمولدات ولحن العامة، وحين يتأمّل الباحث حال المفردات التي تجري على ألسنتهم، في مستواها المعجميّ لا الصرفيّ يرى الفصاحة غالبة عليها، خصوصًا ما يُسمع من كبار السن في أوطانهم في منابع العربيّة.
الألفاظ في لهجاتنا من جهة التدوين المعجمي:
لا تخرجُ عن سبعةِ أصناف:
1- صِنفٌ فصيحُ دوّنتْه المعاجم، وهو الكثير.
2- صِنفٌ فصيح لم تدوّنه المعاجم، ودُوّنَ في مصادرَ قديمةٍ غيرِ المعاجم، وهو الفائتُ القطعي، وجمعتُ منه قدرا صالحا من الألفاظ وجدتُها في مصادرَ مختلفة.
3- صِنفٌ صحيحُ اللفظ لم يُدوّن في مصادرَ قديمة، ولا يعلمُ تاريخُه وهو الفائتُ الظني، وجمعتُ منه نحوَ أربعةِ آلافِ كلمة.
4- صِنفٌ صحيحُ اللفظ، عُرِفُ تاريخُ توليده بعد عصور الاحتجاج، وهو المولّد، ومنه المُحدث، مثل: أمثلة للمولد اللفظي: تاسوعاء، حادوشاء، غسّالة، نشّافة، خرّامة، ومن أمثلة للمولد الدلالي: سيّارة، قطار.
5- صنفٌ دخلَه تغييرٌ عاميٌّ طفيفٌ في الأصواتِ أو البنية، لم يُبعدْه عن أصلِه، ولم يُعرف تاريخُ انحرافِه، مثل امبارك وعبيد وسعيّد.
6- صِنفٌ يخالفُ قياسَ كلامِ العرب، وهو العامّيُّ المحض، مثل: (اللي) بمعنى الذي، و(جِيبه) أي جئ به، وجابوه أي جاؤوا به، و(هاذولا) أي هؤلاء و(ذولاك) أي أولئك.7- صنفٌ معرّبٌ أو دخيل، وهو ما دخلَ لغتَنا من لغاتٍ مختلفة.