في كتابه المهم «فلسفة التنمية المستدامة» الذي صدر عن دار نشر بوف الفرنسية، يستعرض الكاتب الفرنسي فرانك برباج عددا من المحاور التي تسمح بفهم ماهية التنمية المستدامة والدور المحوري الذي تلعبه من أجل استدامة الثروات وتبنِّي قضية تسريع الانتعاش الاقتصادي والحد من انعدام المساواة والقضاء على الفقر. ولأن التنمية المستدامة معنية بالدرجة الأولى بتبني تقنيات صديقة للبيئة والاستثمار في التقنيات النظيفة التي تستهلك أقل قدر ممكن من الموارد وتنتج الحد الأدنى من الانبعاثات الضارة بالكائنات الحية وفي مقدمتها الإنسان، فلا عاقل يستطيع أن يغض الطرف عن تأثير التنمية المستدامة على أنماط الإنتاج والاستهلاك التي لا تزال تنتهجها الدول الناشئة والعلاقة الوثيقة بين هذه الأنماط وسلوكيات الإنسان في تلك البلدان على مختلف الأصعدة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والبيئية.
في خضم هذه المظاهر السلوكية، يؤكد مؤلف كتاب «فلسفة التنمية المستدامة» على أن المجتمعات التي تمر بأزمات اقتصادية يتحتم عليها أن تتبنى ركيزتان اثنتان: الأولى ترتبط بزيادة الإنتاج والثانية تختص بالاستثمار وفقًا لأهداف وقِيَم تنموية داعمة لكافة القطاعات. لهذا أصبحت التنمية المستدامة واحدة من الفرضيات التي تتبنَّاها المجتمعات الكبيرة المعاصرة من أجل شراكة مستقبلية تفترض تغيير أنماط الحياة السائدة التي لا تزال تنتهجها الدول والشعوب. مع ذلك فالعديد من الحركات السياسية، وخاصة تلك التي تمنح دورًا محددًا للقضايا البيئية، تَعتبر التنمية المستدَامَة ميدانَ حرب تتصارع فيه المصالح والرغبات المتضادَّة.
تكمن أهمية كتاب «فلسفة التنمية المستدامة» في الطرح الذي يقدمه المؤلف على شكل سؤال: كيف يمكن تلبية احتياجات الأجيال الحالية بشكل متوازِن دون أن تتعرِّض قدرةَ الأجيال المستقبلية لمخاطر الحياة على هذه الأرض؟ يجيب الكاتب الفرنسي فرانك برباج على هذا التساؤل بقوله: إن التنمية المستدامة تعمل على ترسيخ مجموعة من القِيَم والمفاهيم التي تساهم في تطوير المجتمعات وتسعي لتحقيق الانتعاش الاقتصادي على نطاق واسع بشكل يتَّصِف بالقوة والاستدامة من الناحية الاجتماعية والبيئية بشرط تلبية احتياجات الحاضر دون المساس بقدرة الأجيال المستقبلية على تلبية حاجاتها.
والحقيقة أن مؤلف كتاب «فلسفة التنمية المستدامة» بما يقدمه من رؤى وأفكار إنما يؤسّس ليس فقط لدراسة فلسفية، وإنما لخلق فرضية علمية معاصرة لها علاقة وثيقة بما أسماه واحدة من الفرضيات التنموية التي تفترض تغييرًا جذريًّا للاقتصاد (كطرائق الإنتاج والاستهلاك)، وتفترض بشكل عام تغيير أنماط الاستهلاك بما في ذلك أنماط الحياة السائدة التي لا تزال تنتهجها الدول الناشئة واحدة تلو الأخرى.
يشير مؤلف كتاب «فلسفة التنمية المستدامة» إلى أن المؤتمرات التي دعت إليها الأمم المتحدة ساعدت على نشر مفهوم البيئي تنموي، وكان لهذه الدعوات الأثر الكبير في تعبئة الرأي العام العالمي من أجل اتخاذ قرارات مصيرية تساهم في إضفاء الشرعية على مشاركة الدول المندرجة تحت مظلَّة الأمم المتحدة في طرح وتبني سياسات اقتصادية بيئية تنموية تهدف إلى وضع نهج كامل لعملية التنمية المستدامة.
يُلقي كتاب «فلسفة التنمية المستدامة» الضوء على إعلان ريو «Rio» عن التنمية في عام 1992 الذي يُعدّ أنموذجًا لدعوة الأمم المتحدة إلى تَبَنِّي ثلاث ركائز رئيسة لاستدامة التنمية، فالإنسان الذي يمثِّل الركيزة الأولى الأساسية للتنمية والذي يقع في صلب الاهتمامات المتعلِّقة بالتنمية المستدامة، يحق له أن يحيا حياة صحية ومنتِجة بشكل مستدام وأن يعيش وئام مع الطبيعة. ووفقًا لميثاق الأمم المتحدة ولمبادئ القانون الدولي، فإن الركيزة الثانية من ركائز التنمية تدعو الدول إلى التمتع بالحق السيادي في استغلال مواردها الخاصة وفقًا لسياستها البيئية والإنمائية، وهي مسؤولة عن ضمان ألَّا تسبب الأنشطة التي تدخل في نطاق ولايتها أو سيطرتها أضرارًا لبيئة دول أخرى، أو لمناطق واقعة خارج حدود ولايتها الوطنية. أما الركيزة الثالثة فتتعرض لوجوب إعمال الحق في التنمية على نحو يكفل الوفاء بشكل مُنْصِف بالاحتياجات الإنمائية والبيئية للأجيال الحالية والمستقبلية.
يأتي هذا الكتاب «فلسفة التنمية المستدامة» في ظل موازين قوى سياسية واقتصادية لها ما بعدها من تحوُّلات بيئية كبيرة تُؤثِّر سلبًا على التنمية المستدامة بكافة أشكالها. ويُعَدُّ هذا الكتاب محاولة شاملة لفهم قضية التنمية المستدامة من منظور فلسفي، حيث تعرَّض المؤلف لمناقشة العلاقة بين الإنسان والتنمية والمجتمع، والنظر في مجموعة من العلاقات؛ كعلاقة التنمية بالثورات ا لصناعية المعاصرة، وطرح جملة من المستويات النظرية عن مفهوم الاستدامة والعوامل المشكِّلة لتنمية مستدامة، وكذلك النظر في بعض السياسات الاقتصادية التي تطرحها هذه العلاقات ضمن ميدان فلسفي، ومحاولة التأسيس لمناهج ومفاهيم تنموية، ونعني ما ذكره المؤلف عن الحاجة إلى عصر جديد من النمو الاقتصادي يتَّصِف بالقوة والاستدامة اجتماعيًّا وبيئيًّا.
يختم فرانك برباج مؤلف كتاب «فلسفة التنمية المستدامة» طرحه بالتركيز على العدالة بين الأجيال الحالية والمستقبلية، حيث يمكن تقييم فكرة القابلية للاستدامة وفقًا لإمكانية التقاسُم والوصول إلى الموارد المتاحة، فالمسؤولية جماعية والعمل مشترك. ستُمَهِّد هذه العدالة للأجيال الحالية والمستقبلية بانوراما تنمويةً تربط الحاضر بالمستقبل، ولأن الإنسان لن يستشرف أفقَ المستقبل إلا بتجربة قابلة للاستدامة تمد الأجيال برؤى تنموية، فمن الضروري ألّا يَحرِم الجيل الحالي الجيل القادم من الظروف المعيشية الجيدة والحرية والرفاهية.
** **
د. أيمن منير - أكاديمي ومترجم مصري