أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: مشايخي على ثلاثة أقسام، أما القسم الأول، فهم مدرسون عاديون في الفصول، وفائدتي منهم ضحلة في الجملة، والقسم الثاني علماء فحول مدرسون في الفصل، ولكنني صرت لهم مقام الابن وكانت صلتي بهم في بيتي وبيوتهم، وأولهم الشيخ عبدالعزيز بن حنطي من آل غيهب، وكان يلبس عمامة بيضاء وكأنه من جيل الصحابة، جمعني الله به في دار كرامته، ومنهم ابن شيحه رحمه الله وإن كانت دراستي عنده قليلة، ولما زرت شقراء قُبيل وفاته بثلاث سنوات تقريباً رأيته جالساً عند دكان في ماقفة شقراء (سوق الجَلْب والبيع)؛ فقبّلت جبينه وأنفه، وذهبت منه تخنقني العبرة؛ لما أرى في وجهه من نور مشع مصطفق لا يحس به كثير من الناس، وقد قضى حياته رحمه الله أكثر من نصف قرن مؤذناً وإمام مسجد ومدرساً في آن واحد، يردد كلام الله حفظاً في قعوده وذهابه وإيابه، وزهدت في نفسي عقوداً كثيرة، ولكن أثر أمثاله لا يزال باقياً في وجداني، وقد نفعني الله به بعقيدة صافية مدى عمري مع تراجع أوَّابٍ منذ أوشكت على سبعين عاماً جعلها الله عصمة دائمة؛ والله يبدِّل سيئات الأوابين إلى حسنات، ويضاعف أجورهم على أعمالهم القاصرة المنقطعة، وقد انتفعت بالحديث الصحيح: (نية المؤمن خير من عمله) وبالآيات في إضلاله تعالى مَن علم ما في قلوبهم من شر، والنية الصالحة الصادقة تهدي إلى العمل الصالح بإذن الله.. ومنهم الشيخ صادق صديق الأزهري، والشيخ محمد بن عبدالرحمن بن داود، وسماحة الشيخ صالح بن غصون كان شيخاً لي، وراعياً، ومؤدباً، وناصحاً أميناً، ومحباً حفياً، وسماحة الشيخ عبدالرزاق عفيفي في كلية الشريعة والمعهد العالي للقضاء، وسماحة الشيخ أبي زاهد عبدالفتاح أبوغدة، رحم الله جميعهم؛ فقد استفدت منهم علماً كثيراً ومنهجاً وتربية خلقية، وأسفت أشد الأسف على أنني لم أكوِّن علاقة خاصة مع شيخي محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى، وكنت دائماً أحرص على حضور دروسه في الفصل وفي المسجد النبوي كلما جئت إلى المدينة المنورة، وكان إماماً علامة بحق، وعلمه الواسع جداً في صدره لا في كتابه، ونفَّرني منه رحمه الله أنه سريع الإلقاء، وغير مبين في نطقه أحياناً، كثير الحملة على الظاهرية؛ بسبب حملات الإمام ابن حزم على المالكية رحمهم الله، ويضيق بالنقاش.. ولكنني عوَّضت عن ذلك باقتناء أشرطته.. أستمعها على صعوبة في استبانة كلماته، كما عوَّضت باقتناء كتبه وأهمها (أضواء البيان)؛ فأرجعإليه دائماً.. كما أسفت أيضاً على عدم تكوين علاقة خاصة مع شيخي علي الطنطاوي رحمه الله وكان يدرسنا في الكلية مادة البلاغة.
قال أبو عبدالرحمن: ومن مشايخي في الفصل والبيت والمسجد سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، وسماحة الشيخ عبدالله بن حميد رحمهما الله تعالى، وكان الأول عظيم النكير عليَّ، كثير العتاب برفقٍ؛ لانغماسي في الأدباء والفنانين والظرفاء، وتحبيري كتابات لم يرَ أنها من رسالة طالب العلم، وما أنِسَ إليَّ إلا في حدود عام 1403هـ؛ فأذن لي بالتدريس في المسجد، وأخذ عليَّ التعهد ألا أدرس المذهب الظاهري، وألا أتعمق وأتكلف كما في برنامجي الإذاعي (تفسير التفاسير)، وإن كان يُفضِّل برنامجي الإذاعي (قراءات في صحيح مسلم).. أما سماحة الشيخ عبدالله ابن حيمد فكان يقبلني على علاتي، ويُحسن نصحيتي وتربيتي، ولا أسلم أحياناً من النقدات اللاذعة.. وأما القسم الثالث فهم مشايخ ذاكَرْتُهم العلم في بيتي أو بيوتهم وأجازوني رواية مروياتهم، بعضهم بالإجازة العامة، وبعضهم قرأت عليه أطرافاً من الكتب، ومن هؤلاء جميعاً المشايخ: عبدالحق العمري، وإسماعيل وحماد الأنصاريان.. إلا الشيخ محمد المنتصر الكتاني فقد أجازني إجازة عامة مكاتبة، وغيرهم.. ومن أخص مشايخي عمر المترك الذي درَّسني من الابتدائي إلى المعهد العالي للقضاء، ومنهم سماحة الشيخ عبدالعزيز بن رشيد؛ فمع أستاذيته لي كوَّنت صلة أبوية حميمة معه، وكان يناقشني في العلم كلما سنحت الفرصة، وغيرهم كثير رحمهم الله جميعاً.
قال أبو عبدالرحمن: من ظن أنني عار من الشيوخ فقد خالف الصواب؛ بل إنني أفخر بمشايخ داخل المدرسة وخارجها، وأما من لم أدركهم فلا أعدل بإمام دنياي (بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وخيار التابعين رضي الله عنهم) الإمام أبي محمد ابن حزم رحمه الله أحداً؛ لأنه علَّمني حرية الفكر، والتطلُّع إلى تنوُّع المعرفة، وأن أكون على سجيتي لا أبالي بنقد ناقد، وإن كنت أسرفتُ في ذلك؛ فأضرَّ بي ذلك أي إضرار، وتعلمت منه التبويب المنهجي، وأن لا أكون في أحضان شويخ أُقَلِّده.. وكما حلَّق بي في معارف معيارها الحق والخير حلَّق بي في معارف معيارها الجمال.
قال أبو عبدالرحمن: وكان سماحة الشيخ (صالح ابن غصون) رحمه الله تعالى شديد الإلحاح عليّ بأن لا أرهق نفسي بشراء الكتب، والتوسع في الفنون (كان ذلك أيام الطلب)، ويوصيني بالاستعارة؛ لأن الغرض حفظ العلم، واستحضار معانيه، لا تكديس الكتب، ويعرض عليّ أن أستعير من مكتبته ما أريد.. وكان يوصيني بحفظ المختصرات في الفقه والحديث والنحو.. وكان يقول لي دائماً: (لست الشمس تطلع على كل شيء، والعمر قصير)؛ وهو ممن يزهدون في التأليف، لقد كان جبلاً من العلم والحكمة والقوة.. كان صورةً أمينة لمدرسة سماحة الشيخ (محمد بن إبراهيم) رحمهم الله تعالى جميعاً.
قال أبو عبدالرحمن: وفيما يلي أبيات قلتها في مشايخي رحمهم الله تعالى رحمة الأبرار، وجمعنا بهم في دار كرامته، وأعاننا على أنفسنا؛ لنسلك سبيل الهدى.. هكذا أعرفهم، والله حسيبهم، ولا أزكي على الله أحداً.
مَنَنْتُمْ بفضلٍ وامتناني مجدَّدُ
وزدتم فَلَلْحسنى بكم تتأيَّدُ
على أن في قلبي أسًى ومرارةً
وفي الموق نَزْفُ الدمع لا يتجمَّدُ
فلا تنكروا منِّي حطاماً مهشَّماً
ولا وَجْنةً مثل الغصونِ تَخَدَّد
مللتُ طروسي بل تبلَّد خاطري
وأنكرني عضْبٌ تلاعبه اليد
(أريد القلم).
فكم ألهبتْ أشجانُه شوق مُجْهَدٍ
فإيقاعه التطريبُ والقِيلُ خُرَّدُ
يُداعب مفؤوداً برى الهمُّ جسمَهُ
وينفخ في أشلائه فيغرِّد
جسورٌ على مُعْصَوْصِبِ الفكرِ فَتْقُهُ
فينفي أغاليط الفِرَى وَيُفَنِّدُ
فعدتُّ كما قد باء بالعِيِّ باقِلُ
وكنتُ حليفاً للكتاب أُقيِّدُ
ولا غرْوَ فالمصباحُ ينْداحُ ضوؤهُ
ويُخفيه من بعدِ التوهُّجِ رِمْدَدُ
(الرِّمدد : التناهي في الاحتراق).
وأنكرني عصري وأنكرتُ زَيْفَه
وأوحشني مَنْ بالمقابِر مُلْحَدُ
شيوخُ زماني نوَّر الله تُرْبهمْ
يَلُمُّ خطاهم ذو البصيرة أَرْشَدُ
حفيدُ إمام الخالفين محمَّدٌ
فذاك ابن إبراهيم حَبْرٌ مُسَدَّد
قويُّ فؤادٍ إنْ تأزَّم موقفٌ
سديدُ حلولٍ إن عرى متعقِّدُ
ومِن نَبْعِهِ مَنْ لستُ أُحصي فَعالهمْ
ولم يتركوا ذا حيرةٍ يتلدَّدُ
أعدُّ ابن بازٍ نافلاً أهلَ جِيلهِ
بكلِّ خصالِ الخيرِ والناسُ شُهَّدُ
كذا ابنُ حميدٍ ألمعيٌّ على تُقىً
يحوكُ كريمَ الرأيِ لا يتأوَّدُ
ولابن غصونٍ فَضْلُ حنكةِ عالمٍ
غيورُُ على الإسلام شهمٌ مَصُمَّدُ
(المصمَّد: الصلب الذي ليس فيه خور ، وأعني صلابته في الحق).
ولابن العثيمين الأريبِ جلالةٌ
مواقعها في القلب عزُّ مُنَضَّدُ
ألا إنه حَبْرٌ لآليه في الذُّرى
يُخَرِّج أجيالاً وللحقِّ يَنْشُد
وشيخُ شيوخِ الجيل من بان فضلُه
بعلمٍ غزيرٍ فائقٍ لا يُقَلِّدُ
فذاك العفيفيُّ الذي فاءَ ظِلُّهُ
عفيفٌ كما دلَّ اسمه مُتَزَهِّدُ
فعشنا على السمحاء نَهدي ونهتدي
وجُلُّ عوامِّ العصر من هديهمْ هُدُوا
وجوهٌ بأنوار الفضيلة أشرقَتْ
فتشربها الأنظار ترنو وتَسْعَدُ
براءةُ أطهارٍ وسيما مُوَحِّدٍ
لها هَيْبَةُ التقوى تُصَلِّي وتَحْفِدُ
[تحفِدُ: تُسرع في مرضاة الرب سبحانه].
ينالون خير الرزق إذْ طاب كَسبُهمْ
ذوو عَزْمةٍ في آخرِ الليلِ سُجَّدُ
وإلى لقاء قريب إن شاء الله، والله المستعان.
** **
كتبه لكم/ (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -