يتناقل بعض الناس شبهات إبليسية ويصيغونها بصيغة سؤال تشكيكًا في أهمية التوحيد فيقولون: ما علاقة توحيد الله بمجالات الحياة الدنيوية خصوصاً المادية منها؟
وما مدى تأثير التوحيد عليها خصوصاً؟ وهل يستحقُ الأمرُ أن نهتم بالتوحيد ونشره وتعليمه والدعوة إليه إلى هذا الحد؟!
وهذه الشُّبهات المتوجهة لأمر ومقام التوحيد، ابتلي به المسلمون منذ القدم، وفي هذا العصر خصوصاً من قبل أهل الأهواء والبدع وخصوصاً جماعتي التبليغ والإخوان، واليساريون وغيرهم من أصحاب المدرسة الفردية.
ولرد هذه الشبهة يجب أن نبين أنه من المقرر عقلاً وبداهةً أن الوجود عبارة عن كينونات يلتحم وينضمّ بعضها إلى بعض فتتكوّن منها عدة منظومات، فعندنا مثلاً منظومة أسرية، واجتماعية، واقتصادية وأخرى سياسية حاكمة، وتلك قضائية، ناهيكم عن المنظومة التعليمية والدعوية، وهذه كينونات تؤدي دورها بتناغم وتوافق واتساق مع بعضها البعض لتكون منظومات أكبر، وهذه الكينونات والمنظومات لها علل وجود وعلائق فيما بينها وتأثير وتأثر، ولا شك أن هذه المنظومات يعتمد بعضها في استمراريته على وجود منظومات أخرى هي أهم منه وهذا التسلسل من المنظومات لا بد له من متعلق رئيسي يُنتهى إليه وهو الذي يحدد علّة الوجود نصل إلى عامل مسيطر مؤثر؛ فتتضح لنا منظومة الحياة الكاملة على حقيقتها، وهنا يبدأ الصراع بين التبعية والفردية فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وبين قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ، فالاعتداد بالنفس والشعور بالاستغناء عن الهادي والهداية هي أساس كل شر لذلك حث الإسلام على أمرين الاتباع ولزوم الجماعة فهي الحصن الحصين ضد الفردية والشك والشرك.
لذلك جعل الله من طبيعة هذه الكينونات والمنظومات أن تدخل في منتظم الدولة (الجماعة) بطريق مباشر وغير مباشر؛ لذلك تجتهد الاتجاهات الفردية لاختراق هذه الكينونات واختطافها حتى تكون لها حاضنة وتتمكَّن من السيطرة فيما بعد على المنظومة هذه أو تلك فيتخلخل بذلك المنتظم للدولة.
ولتقرير ما سبق من أهمية التوحيد ومدى تأثيره المباشر على منظومة الحياة عموماً ومنها الحياة المادية الاقتصادية فنأخذ مثالاً يقصه علينا الله جلَّ وعلا والذي يعطينا أسباب حوادثه ونتائجه هنا هو الله وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا (87) سورة النساء، فيحدثنا الله عن صاحب الجنتين في سورة الكهف والعزة والمنعة الدنيويتين المنقطعتين اللتين حازهما، فقد كان لهذا الرجل جنتين، تحويان أنواع المنتجات الزراعية ومكّنَ اللهُ لصاحبها من تهيئتها، حتى اغتر بعظمتها وكثرة إنتاجها وعوائدها من الذهب والفضة. وافتخر على صاحبه المؤمن وهو يحاوره في الحديث والغرور يملؤه قائلاً أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) سورة الكهف، أنا أكثر منك مالاً وأعز أنصارًا وأعوانًا، كما يفتخر العالم الغربي وغيره علينا، بأنهم أحسن اقتصاداً وأقوى جيشاً ... إلخ.
ثم قال صاحبُ الجنتين مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا [الكهف: 35]، فاغتر بجنتيه التي قال الله تعالى عنها: آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا [الكهف: 33] أي: وقد أثمرت كل واحدة من الحديقتين ثمرها، ولم تُنْقِص منه شيئًا أي أن الجدوى الاقتصادية قد اكتملت فيها غاية الاكتمال، كحال العالم الغربي إلى حد كبير في زماننا والذي افتتن به أبناؤنا وزعموا أنه استغل جميع الموارد البشرية والطبيعية بذكاء وبكفاءة عالية وباستخدام أحدث النظريات والتقنيات، فصاحب الجنتين أخذ بجميع الأسباب الدنيوية المادية، ونجح في ذلك نجاحاً باهراً لدرجة أن الجنتين أعطت أقصى طاقتهم الإنتاجية كاملة وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا [الكهف: 33]، ولكنه عطاء منقطع؛ لأنه لم يتصل بالتوحيد، كيف ذلك؟ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وما أظن الساعة قائمة .
فاطمأن إلى هذه الدنيا، ورضي بها، وأنكر البعث، فقال: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي على ضرب المثل لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا يقول ابن سعدي -رحمه الله - أي ليعطيني خيراً من هاتين الجنتين، وهذا لا يخلو من أمرين: إما أن يكون عالماً بحقيقة الحال، فيكون كلامه هذا على وجه التهكم والاستهزاء فيكون زيادة كفر إلى كفره، وإما أن يكون هذا ظنه في الحقيقة، فيكون من أجهل الناس، وأبخسهم حظاً من العقل، فأي: تلازم بين عطاء الدنيا وعطاء الآخرة، حتى يظن بجهله أن من أعطي في الدنيا أعطي في الآخرة ا.هـ
فاعتقاده أن الدنيا دائمة هو إنكار صريح منه لوجود دار أخرى لذلك قال وما أظن الساعة قائمة وهذا يتضمن إنكاراً صريحاً لتوحيد الألوهية لإنكاره الغاية التي خلقنا الله لأجلها وهي عبادته سبحانه ووعدنا عليها تفضلاً منه بالنعيم الأُخروي.
لقد أصيب صاحب الجنتين بعذاب الله الشديد وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا والسبب الذي تجلّى لصاحب الجنتين، فهو صاحب المشكلة.
وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف: 42] نعم إنه الشرك الذي هو أشد أوجه الكفر، بل لا يعبر عن الكفر في كثير من الأحيان إلا به ولأن كلام صاحب الجنتين يتضمن الكفر بتوحيد الألوهية.
فانتهى كل شيء وانهارت قوى صاحب الجنتين التي كان يتبجح بها وبقوة اقتصاده، وكثرة جمعه، وجنده ونفره أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا [الكهف: 34].
ألم يتخذ صاحب الجنتين جميع الأسباب المادية؟ ونجح وأمثاله من أهل الشرق والغرب في ذلك أيّما نجاح؟!
الجواب: بلى، ولكن صاحب الجنتين غفل كما غفل كثيرٌ من أهل المشرق والمغرب عن أهم سبب للعزة والمنعة ودوامها في الدنيا والآخرة، فلم ينتبه إليه إلاَّ بعد أن خرج الأمر من يده وهو توحيد الله وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف: 42] نعم، إنه الشرك بالله، سببُ كل شر وأصله وهو أوضح وأخطر وجوه الكفر، بل يُعبّر غالباً عن الكفر بالشرك، قال تعالى وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ [إبراهيم: 26] وقال تعالى وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج: 31] وقال تعالى وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف: 96] فانظر إلى العلاقة السببية المباشرة هنا بين اتصال ودوام نجاح التنمية والتوحيد.
** **
- مدير عام فرع الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة الرياض