د.سالم الكتبي
يصعب تحليل الزيارة التاريخية التي قام بها مؤخراً إلى المملكة العربية السعودية شي جينبينغ الرئيس الصيني، من دون تسليط الضوء على ما تعنيه هذه الزيارة والقمة العربية - الصينية غير المسبوقة، التي عقدت خلالها، من معان ودلالات بالنسبة لدور المملكة إقليمياً ودولياً؛ فهذه القمة غير المسبوقة التي تلتئم بعد أشهر من قمة مماثلة عقدها الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال زيارته للسعودية في شهر أغسطس الماضي، تعكس المكانة المتنامية للمملكة كما تعكس كذلك أبعاد الدور الذي تقوم به الرياض في محيطها الإقليمي.
القمتان العربية - الصينية، والخليجية - الصينية عقدتا بدعوة من المملكة لتعكسا دوراً قيادياً سعودياً يسعى إلى ترتيب الأوراق إقليمياً بما يتسق مع المصالح الإستراتيجية للدول الخليجية والعربية، حيث يتنامى دور الصين ونفوذها العالمي، إذ يتصاعد هذا الدور في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ، وقد برز الطموح الصيني العالمي بشدة منذ الإعلان عن تدشين مبادرة «الحزام والطريق» في مايو 2017، وهي الخطوة التي تعد أكثر سياسات الرئيس شي جينبينغ الخارجية طموحاً وتعميقاً لشبكة العلاقات الدولية لبلاده، وتشمل هذه المبادرة التي أعلن عنها للمرة الأولى في عام 2013، شبكة تعاون مع نحو 68 دولة، وتؤكد الأرقام أن الصين تنفق حالياً نحو 150 مليار دولار سنوياً استثمارات في الدول الشريكة في المبادرة، ضمن مشروع اقتصادي طموح يشمل إنشاء موانىء وطرق وسكك حديدية في عشرات الدول من أجل تحقيق أهداف هذه المبادرة الكبرى.
بجانب توقيع اتفاق الشراكة الإستراتيجية الشاملة الذي وقعه الجانبان السعودي والصيني، والذي يعد تعميقاً للشراكات الصينية مع دول مجلس التعاون، فإن زيارة الرئيس الصيني مؤخراً للرياض ستسهم في توسيع مجالات التعاون بين البلدين، حيث ستتسع هذه الشراكة لتشمل بجانب الاقتصاد (السعودية هي المورد الرئيسي للنفط للصين وبكين الشريك الاقتصادي الرئيسي للسعودية) جوانب وقطاعات أخرى حيوية، كما يتوقع أن تنخرط السعودية في منظمة شنغهاي للتعاون وتنتقل من مرتبة شريك حوار إلى مرتبة المراقب، وهي خطوة مهمة للغاية في إطار أهمية المنظمة التي تضم نحو 40 % من سكان العالم و30 % من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، فضلاً عن أنها قد تلعب دوراً مهماً في إطار تعزيز التبادلات التجارية غير المقومة بالدولار الأمريكية.
لاشك أن الصين فاعل رئيسي في إطار خطة المملكة «رؤية 2030» بشان تنويع الاقتصاد السعودي، حيث تراهن الرياض كثيراً على دور بكين في تنفيذ مشروعات هذه الرؤية الطموحة، التي تتضمن صناعات وخدمات لوجستية ومشروعات ضخمة في قطاعات مختلفة. بالمقابل، فإن الخطط السعودية تمثل رهاناً كبيراً للشركات الصينية التي تريد الفوز بنصيب الأسد في مشروعات المملكة التنموية الكبرى مثل مشروع «نيوم» الذي تقدر استثماراته بنحو 500 مليار دولار.
المغزى الأهم في زيارة الرئيس شي جينبينغ للسعودية يتمثل في دلالات هذه الزيارة بالنسبة للولايات المتحدة، الحليف التقليدي التاريخي لواشنطن، حيث تؤكد الزيارة أن الرياض لن تقف عاجزة أمام الضغوط الأمريكية ولاسيما في مجال النفط، وأن على الولايات المتحدة الاعتراف بتغير قواعد اللعبة وأن السعودية تسعى إلى علاقات دولية تعددية تناسب مصالحها الإستراتيجية، وأن السياسات التقليدية السابقة لم تعد صالحة للعمل في الوقت والظروف الراهنة.
الملاحظ هنا أن المملكة لم تلق بأوراق اللعب كاملة بعد، حيث لا تزال الرياض تحتفظ بورقة تقويم سعر النفط الذي تصدره للصين باليوان بدلاً من الدولار؛ فلا يزال هذا المطلب الصيني قائماً ولكن الرياض لم تستجب بعد لاعتبارات تتعلق برغبتها في الحفاظ على التوازن في علاقاتها الدولية، لاسيما أن السعودية تدرك حجم التأثير الهائل لفكرة تخليها عن تقويم سعر صادراتها النفطية للصين بالدولار، وعلاقة ذلك بالنفوذ العالمي الأمريكي الذي يرتبط في جانب كبير منه بقوة العملة الأمريكية وتأثيرها على الاقتصادات العالمية.
الواقع يقول إن زيارة الرئيس الصيني للمملكة العربية السعودية تعزز وتقوي الدور والتأثير السعودي وتعكس مكانة المملكة، ولكنها لا تعني بالضرورة فك الارتباط بين الرياض وواشنطن، لاسيما في المجالين الأمني والعسكري، فلا تزال الشواهد تؤكد حرص السعودية على الإبقاء على علاقات التحالف مع الولايات المتحدة ولكن وفق قواعد لعبة جديدة تستوعب متغيرات البيئة الدولية والرؤية السعودية لهذه العلاقة، وترتبط بالأساس بإعادة التموضع الإستراتيجي ورسم اتجاهات جديدة للسياسة الخارجية للمملكة وفق قواعد اللعبة التي طرأت على بيئة العلاقات والتوازنات الدولية عقب تفشي وباء «كوفيد 19» ثم اندلاع الأزمة الأوكرانية وبزوغ عصر جديد من التوازنات والعلاقات الدولية التي تتطلب تحركات تتماشى مع هذه المستجدات، وهنا يبدو الخطاب السياسي السعودي صريحاً ومباشراً في الإعلان عن تركيزه على مصالح البلاد دون الاهتمام بردود الفعل الأخرى، وهذا يشمل بالطبع تعديل شبكات المصالح والاستثمارات وفق رؤية المملكة لآفاق علاقاتها الدولية خلال المديين القريب والبعيد.
علينا أن نلاحظ أن زيارة الرئيس شي جينبينغ للسعودية هي الثانية له خلال ست سنوات، وهذه بحد ذاتها إحدى مؤشرات الرهان الصيني على العلاقات الإستراتيجية المتنامية مع الشركاء السعوديين ليس فقط على الصعيد النفطي والاقتصادي والاستثماري، ولكن على الصعيد الإستراتيجي بشكل عام. والرياض التي تستضيف خلال ستة أشهر قمتين دولتين كبيرتين، أمريكية وصينية، للحوار مع العرب والخليجيين، تعكس دوراً سعودياً متنامياً على الصعيد الدولي، وبما يؤكد أن هناك واقعاً جيواستراتيجياً جديداً سيسهم من دون شك في رسم قواعد اللعبة الجديدة في أي نظام عالمي قادم.