د. عيد بن مسعود الجهني
العالم اليوم يعيش حالة تسيطر عليها الطاقة خاصة النفط شريان الحياة لمعظم دول العالم في جميع مناحي الحياة بدون استثناء هذه السلعة السحرية - أغلى سلعة عرفها التاريخ الإنساني غيرت وجه الحضارة الإنسانية وأشاع نورها الدنيا كلها.
وخلال القرن المنصرم وهذا القرن برزت أزمة الطاقة بقوة على حافة جميع الصراعات الدولية في مناطق عديدة من العالم خصوصاً في منطقة الخليج العربي التي تسيطر على أكبر محيط نفطي مؤكد عالمياً، يبلغ أكثر من 800 مليار برميل يمثل (62) في المئة من الاحتياطي النفطي الثابت عالمياً.
أسعار البترول التي كانت تسيطر عليه شركات النفط العالمية التي كان أطلق عليها (الأخوات السبع) بقيت منخفضة بشكل كبير على مدى مئة عام ما بين اكتشاف البترول 1859 وتسعيره 1860، حتى تأسيس الأوبك أواخر 1960، الذي لم يكن يمثل أهمية بالنسبة لوكالة الاستخبارات الأمريكية كمنظمة اقتصادية، ففي تقرير أصدرته تلك الوكالة بعد تأسيس المنظمة لم تخصص لها سوى (سطرين) في ذلك التقرير، ورغم تأسيسها فلم تستطيع رفع سعر نفوطها سوى بحدود (10) في المئة، بل إن شركات النفط زادت من قوة سيطرتها على الأسعار فخفضت سعر برميل النفط ليبلغ عام 1970 نحو (80.1) دولار، وهذا السعر لبرميل النفط كان سائدا إلى حد كبير رغم الحربين الكونيتين الأولى والثانية.
شهر رمضان المبارك الذي شهد معركة تاريخية عظيمة كان شهر خير وبركة، فمع تدمير جسر بارليف وقطع الإمدادات النفطية الذي قادته السعودية ضد الدول التي وقفت مع إسرائيل ضد مصر، هنا بدأت مسيرة جديدة في أسعار النفط سببتها تلك الحرب فانتقلت أسعار البترول من الركود لمئة عام ليصبح النفط صاحب قوة ونفوذ دولي ليرتفع السعر من (80.1) دولار ليبلغ (4 ثم 11) دولار وفي عام 1979 - 1980 بلغ ما بين 39 و40 دولارا للبرميل.
وقد طرأت مستجدات جديدة في تلك الفترة من التاريخ النفطي على الساحة النفطية تمثلت في وجود تنظيم مناوئ للأوبك هي منظمة الطاقة الدولية (IEA)، جاءت الصحوة التي تزعمها مهندس السياسة الخارجية الأمريكية آنذاك هنري كيسنجر تزامنا مع أول ثورة لأسعار النفط حيث اقترح في ديسمبر 1973م على دولته وأوروبا ومعها اليابان تشكيل منظمة تتولى التخطيط لشئون الطاقة وتتصدى للأوبك.
ولم يهدأ للرجل بال حتى ولدت المنظمة الدولية للطاقة التي تمثل الدول الصناعية OECD لترى النور في الخامس عشر من شهر نوفمبر 1974م حيث وقع الأعضاء المؤسسون في اجتماع واشنطن الشهير إضافة إلى الدول الغربية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD ميثاق تأسيسها، وعلى الفور وبالتحديد في الثامن عشر من شهر نوفمبر عام 1974م قامت المنظمة المتوثبة التي مقرها باريس للحد من هيمنة الأوبك بتحديد برنامجاً واضحاً أطلقت عليه (برنامج الطاقة الدولية) (International Energy Program).
وقد كان في مقدمة أهداف الوكالة في الدرجة الأولى ومع ارتفاع أسعار النفط في تلك الفترة من تاريخ سلعة النفط مراقبة تغير أسعاره وتوقع تذبذباته وديناميكية الإمدادات التي تضمن استقرار سوق النفط الدولية.
وفي رأينا أن الوكالة في الأساس أنشأت من أجل محاربة الأوبك وسياستها وقطع الطريق عليها حتى لا تتحكم في سياسات النفط إنتاجاً وتصديراً وتسعيراً.
وفي زمن الرخاء النفطي في الثمانينيات والتسعينيات من قرن النفط المنصرم قدمت رؤاها ومقترحاتها وتنبؤاتها لحاضر ومستقبل النفط، وتغلبت الوكالة على أزمات أسعار النفط في ثورته الأولى 1973 ثم في طفرته الثانية تزامنا مع الثورة الخمينية 1979، ثم لتنهار أسعار النفط في الثمانينيات لتبلغ (7) دولارات للبرميل ليبلغ المخزون الاحتياطي النفطي للدول الصناعية مع هذا السعر المنخفض جدا (6) بلايين برميل، ثم اندلاع الحرب الإيرانية - العراقية لسنوات ثمان، ثم حرب احتلال الكويت، ناهيك عن حرب احتلال العراق.
ورغم أن وكالة الطاقة الدولية كانت شوكة في نحر الأوبك خاصة في فترة الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم.
ورغم (أيضا) أن المنظمة اعتبرها الكثيرين من الخبراء أنها (مستودع) معلومات الطاقة الذي لديه (سحر) إدراك حاضر ومستقبل الأسعار والإمدادات على مستوى العالم، إلا أن المنظمة في رأينا وقعت في فخ أخطائها، لماذا؟
لأنها وهي تخطط للخروج عن عباءة الأوبك ذهبت بعيدا في تطبيق تنويع مصادر إمداداتها من النفط والغاز، ولقرب روسيا من القارة الأوروبية لم يدر بخلد ساسة النفط والغاز في تلك الدول يوما أن (الرماد) قد يصبح نارا، فمع اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا الجارة انفضح المستور، وليس أمام أوروبا سوى محاولة عدم الاعتماد على النفط والغاز الروسيين، معاقبة على هجوم ذلك البلد على جارته أوكرانيا.
لكن من الذي وضع دول أوروبا في هذا (المأزق) الخطير؟ إنهم المسئولون عن الطاقة في تلك الدول فهم الذين خططوا للوقوف في وجه الأوبك التي كانت وما زالت تدعم استقرار سوق النفط الدولية ولا علاقة لها في الصراعات الدولية، فهي تملك سلعة النفط والغاز وتبحث عن المشترين (ولا ناقة لها ولا جمل) في أي نزاع أو صراع أو حتى حروب تدور رحاها في الدول المستهلكة.
دول أوروبا اليوم بسبب (هروبها) من النفط الذي تصدره الأوبك إلى حد كبير، اعتمدت على نفط وغاز دولة واحدة (روسيا) وهذا خطأ كبير استراتيجي خرج من رحم دول متقدمة في العلوم والتكنولوجيا، وهذه الدول ترتكب (المحظور) معتمدة إلى حد كبير على دولة واحدة في إمداداتها من الطاقة، وهذه (كبوة) لا تقع فيها دولة فقيرة من دول العالم الثالث، في زمن ينتج فيه النفط في أكثر من (100) دولة حول العالم.
ولذا كانت واردات النفط الأوروبي من روسيا تبلغ أكثر من (4.5) مليون ب/ي، ناهيك عن الغاز الذي تنقله الأنابيب إلى القارة العجوز، وأن الغرب على ما يبدو يسعى إلى تطبيق سياسة المقاطعة الكاملة لمصادر الطاقة الروسية مع استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا وقد تمتد المقاطعة إلى الفحم الروسي، ومن جانبه الرئيس بوتين قد يطبق سياسة حظر تصدير الغاز إلى أوروبا.
وتتكرر أخطاء الدول الصناعية، وغبار الحرب الروسية - الأوكرانية وفرض عقوبات قاسية على روسيا امتدت إلى البترول والغاز الروسيين، قرر الاتحاد الأوروبي بعد اجتماعات متعددة وضع سقف لسعر النفط الروسي حدد بـ (60) دولارا للبرميل.
هذا السقف لأسعار نفط دولة منتج رئيس للنفط جاء وأسعار النفط تشهد انخفاضا كبيرا، فعند كتابة هذه الأسطر فان نفط خام برنت بحدود (77.79) دولار وخام غرب تكساس الأمريكي (72.79) دولارا للبرميل، وهذه الأسعار المتدنية رغم تخفيض الأوبك والمتحالفين معها قرروا تخفيض إنتاجهم بمليوني برميل يوميا، وهذا السعر ما بين (65 - 75) دولارا للبرميل طالبنا به كثيرا لضمان استقرار سوق النفط الدولية والحد من زيادة إنتاج النفط الصخري الأمريكي فكلما زادت الأسعار للنفط الاحفوري كلما زاد الإنتاج الأمريكي من الغاز الصخري.
ثم ان الاتحاد الأوروبي وهو يقرر سقف لأسعار دولة أخرى (روسيا) فإن هذا يعد في علم البترول أمرا غير مقبول، فالدولة المنتجة لسلعة النفط هي التي تحدد سعر نفوطها، خاصة وهي ضمن تحالف (قوي) تقوده الأوبك لدعم السوق الدولية النفطية.
من حق الاتحاد الأوروبي أن يقاطع النفط الروسي بشكل كامل ويقرر عدم استيراد برميل واحد، بل ومن حقه القانوني والسياسي منع الغاز الروسي أن يغزو السوق الأوروبية، لكن ليس من حقه أن يحدد سقفا لسعر نفط دولة صديقة أو عدوة للاتحاد الأوروبي.
ثم مرة أخرى روسيا لديها أبواب أخرى تتعامل معها تبيعها نفطها بسعر أقل من سعر السقف الذي حدده الاتحاد الأوروبي بمقدار النصف فالصين مثلا والهند تحصلان على بترول روسيا بسعر (30) دولاراً للبرميل، ينطبق ذلك على المثل القائل (مصائب قوم عند قوم فوائد).
بهذا فإن لكل دولة منتجة للنفط في العالم أن تبيع إنتاجها من هذه السلعة السحرية بالسعر المتداول بالسوق النفطية أو بأقل منه وهذا هو تعريف قانون العرض والطلب.
السؤال المهم هل العالم يواجه أزمة نفطية ومن ضمنه بالطبع الاتحاد الأوروبي؟
الإجابة بالطبع لا، فالصورة التي تتضح أمامنا تدعو للتفاؤل بالنسبة لحجم الاحتياطي العالمي من النفط، فالاحتياطي النفطي الذي كان يعتقد أنه في طريقه للنفاد يتزايد عاما بعد آخر، واستمرت الزيادة المطردة في الاحتياطي المؤكد من النفط في العالم فطبقا للتقديرات للاحتياطيات العالمية للنفط، فإن حصة الأوبك مثلا (1.217) تريليون ومئتين وسبعة عشر مليار برميل من إجمالي الاحتياطي العالمي من النفط الخام البالغ أكثر من (1.488) تريليون وأربعمائة وثمانية وثمانين مليار برميل، ويمثل احتياطي أوبك وحدها نحو (80) في المئة من مجموع الاحتياطي العالمي.
وتتركز هذه الاحتياطيات الكبيرة في دول الخليج العربي وإيران، وحصة الدول العربية وحدها بلغت نسبتها نحو (56) في المئة من الاحتياطي العالمي، فمجموع احتياطيها أكثر من (710) مليارات برميل، ودول مجلس التعاون الخليجي احتياطيها نحو (506) مليارات برميل نحو (46) في المئة من الاحتياطي العالمي.
ورغم الاستهلاك المسرف للنفط الذي بلغ (100) مليون برميل يوميا قبل جائحة كورونا وتدنى إلى (صفر) في فترة من الفترات ليعود السعر ليبلغ (139) ثم (120) دولارا للبرميل الواحد، واليوم عند الأسعار لبرنت وغرب تكساس التي نوهنا عنها.
ورغم هذا المحيط الهائل من الاحتياطي العالمي من النفط فإن دول صناعية قليلة لا تمثل شعوبها سوى (15) في المئة من إجمالي سكان العالم، وأمريكا نفسها سكانها نحو (4.5) في المئة من سكان العالم تستهلك هذه الدول (75) في المئة من إجمالي استهلاك الطاقة في العالم.
إذا الحقيقة أن النفط الذي أبهر عقول العسكريين في الحرب الكونية الأولى فكان سلاحا ماضيا في حسم تلك الحرب وإدارة الصراع لصالح الحلفاء هو (النفط) الذي حسم الحرب المدمرة الثانية التي اعتمدت على النفط الأمريكي في نحو 90 في المئة من احتياجاتها عندما كانت أمريكا إمبراطورية نفطية هائلة وحيدة فرضت إرادتها البترولية على الجميع دون منازع، كما تفرض إرادتها المفرطة بقوتها (المعراة) اليوم ومعها روسيا على كوكبنا الأرضي لتمثل حقيقة النظام الدولي الجديد (القوة).
والحقيقة الأخرى أن النفط من المصادر غير المتجددة ولن يقول خبير متخصص أن تلك المصادر ليست قابلة للنفاد، لكن يصعب على أي خبير أو باحث في هذا الميدان (المعقد) القول بأن (النهاية) قريبة لأن هذا الرأي لن يصمد أمام الحقائق المعاشة فمنذ الخمسينيات من القرن المنصرم قيل أن النفط ظهر فجأة ونهايته ستكون فجائية بطريقة مجيئه نفسها، لكن حقائق النفط جاءت معاكسة لهذه النظرة التشاؤمية فاحتياطي النفط تضاعف أكثر من 500 مرة منذ أوائل القرن الماضي وحتى العقدين الأوليين من القرن الواحد والعشرين.
لذا فنحن مع المتفائلين وهم كثر القائلين بأن النفط لا يزال في ريعان شبابه وعمره سيكون مديدا ولسنا مع المتشائمين وهم قلة الذين يدعون أنه بلغ من العمر عتيا، وأنه على وشك أن يودع الدنيا، وما يحتاجه العالم زيادة حجم الاستثمارات في البحث والتنقيب والاستكشاف عن النفط لزيادة حجم احتياطيه خصوصا مع توفر التكنولوجيا المتطورة في هذا الميدان، فالدول المستهلكة للنفط خصوصا الدول الصناعية المستهلك الرئيس يجب أن يكون لها نصيب الأسد من الاستثمارات لزيادة احتياطيات النفط لإطالة عمر إنتاجه لسد حاجات العالم منه من الدول المنتجة له حاليا ودول أخرى لضخ 140 مليون ب/ي مع حلول عام 2035.
إذا العالم ليس في زمن حدوث أزمة طاقة وتحديدا النفط والغاز، بل في حالة (شبع) من النفط والغاز، ودليلنا انه رغم أن الحلف النفطي قرر مؤخرا تخفيض إنتاجه بمليوني برميل يوميا وهو خفض كبير لم تقدم عليه الدول المنتجة إلا بعد دراسات وتحليلات دقيقة لسوق النفط الدولية.
ورغم هذا الخفض فإن الأسعار أخذت لنفسها للتدني، ناهيك أن السوق مازالت تختزن فائضا من النفط يبحث عن المشترين شرقاً وغرباً.
ومع هذا يبقى القول إن العالم يشهد أزمة طاقة، ويمكن استبدالها بأن سوق النفط ينقصها (قوة) الإدارة و(الحوار) فهما البوصلة التي تنير الطريق لسوق نفطية دولية مستقرة لسنوات عديدة.
والله ولي التوفيق،،،
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة