ماتَ أبي ولم تهزمني اللحظات الكبيرة..
وقفتُ صامدًا أمامها.. تَرْقُبني من بعيد
تهزّني قليلاً، تعْتصرني، ولا تأخذُ منّي سِوى تنهيدةٌ، وبعْضُ عَبَرات..
لم أعْتدْ على تلك الصراعات، فأنا مسالمٌ بطبعي..
وكأنها كانت تجمعُ قواها للنزالِ الكبير..
وكأنها تعرفُ أني أخذتُ من أبي ذاكَ القويُّ الذي لا ينكسر
ما بعد الثامنة.. في ذاك المساء، وأنا أسمعُ بين طَنينِ الأجهزة (No pulse)، قالوا لي «بنسوي اللي علينا بس حالته صعبه» وكأنهم يهيئونني لأولِ جولات النزال الكبير.. ولم يعرفوا أني أخذتُ من أبي ذاك القويُّ الذي لا ينكسر..
قالوا تعال في اليوم التالي لإكمال «الإجراءات» وكأني بهم يقولون «للجولة الثانية من النزال»..
سألني، وكأنه يَخْتبرني، «أنت اللي بتغسله؟!».. لا يعرف أني أخذتُ من أبي ذاكَ القويُّ الذي لا ينكسر.
تنهارُ قواي، تهتزُ أركاني بعدَ كل جولةٍ تعْصفُ بي.. وفي المقابل هي تتوعدني بأن القادمة ستكون القاضية.. ولا تعلمُ أني أخذتُ من أبي ذاكَ القويُّ الذي لا ينكسر.
اسْتجمعتُ كلّ قواي واستعنتُ بكل ما أعرف من الدعاء للحظة الوداع الأخير.. وسألني: «من اللي بينزل القبر؟» قلتُ بلا تَردد، «أنا طبعاً»، وكيف لا وأنا الذي كنت أُوصلُ أبي حيثُ ما أراد! «بس ترى الموضوع مهوب سهل»، أتبع قائلاً:
لا يعرف أني أخذتُ من أبي ذاكَ القويُّ الذي لا ينكسر.
توالتْ عليَّ جولات الصراعات بشتى مراحلها، وأزعمُ أنني خرجتُ منها، واقفًا.. مع بِضعِ كَدماتٍ وكثيرٍ من الذكريات.
واقفاً على قَدمَيَّ وقد تركتُ شيئًا منى في تلك الحفرة.
صمدتُ أمام اللحظات الكبيرة.. لأن بداخلي ذاكَ القويُّ الذي لا ينكسر، بداخلي أبي الذي كان شاهقًا عند وداع إخوته، بداخلي أبي الذي كان صامدًا أمام كل تقلبات الحياة، بداخلي أبي الذي وقف نِدًا للمرضِ وقالَ له هاتِ ما عِندك، حتى استسلم لربه وقال: {رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
صمدتُ أمام اللحظات الكبيرة.. وهزمتنى التفاصيلُ الصغيرة..
هزمني صوتُ أبي ينادني ذات ليل «هلا أبوي»..
أسمعهُ بكلِّ وضوح «وش رايك تفطر معي؟».. اسمعه عندما كانَ يسألني بما تبقى من صوته «وشلون البنيّات؟»..
لم يبْقَ من ذاكَ القويُّ الذي لا ينكسر سوى عبراتٍ تبحثُ عن أبي.
هزمني خطُ يده الجميل لقصيدته في بنتي وهو يقول لها «خَضَعتْ هيبةُ شيْبتي..».. وقرأتها للمرة الـ... وكأني أنا الذي خَضَعَ لتلك التفاصيلُ الصغيرة.
رحمكَ الله يا أبي شامخاً، باقيًا في داخلي ومن حَوْلي.. وأعانَني اللهُ على تِلكَ التفاصيل الصغيرة.
** **
- عبدالله بن سعد الشريف