منصور ماجد الذيابي
يشير مصطلح «شبّة النّار» عند كثير من المجتمعات في شبه الجزيرة العربية إلى إشعال النّار مع بداية فصل الشتاء لا بغرض التدفئة وإعداد القهوة العربية فحسب, وإنما لأجل أن يلفت اشتعال النّار كل من يشاهد ألسنة اللهب سواء من الضيوف القادمين إلى الدّيار أو الجيران والزائرين والعابرين كنوع من التّرحيب بهم ودعوتهم لاحتساء القهوة العربية في ليالي الشتاء الباردة. وما أن يشاهد الزائر أو الضيف شبّة النّار المتّقدة, فإنه لا يتردّد في المضي قدماً نحو ضوء النّار حتى يصل إلى المكان غير آبهٍ بالظروف التي قد تمنعه من الزيارة والمشاركة في حوارات ومناقشات المجلس حتى دون توجيه الدّعوة مسبقاً كما هو الحال في يومنا هذا, إذ أن شبّة النّار في ثقافة الأجيال السابقة تُعدّ بحد ذاتها دعوة عامة للحضور وأخذ قسطٍ من الراحة أثناء المسير أو الرحيل.
ومن هنا أصبحت شبّة النّار رمزاً عروبياً للترحيب بكل قادم إلى الدّيار أو عابر بالقرب منها, غير أنّ الهدف الأسمى من شبّة النّار هو تبديد حالة الخجل والحرج من دخول الدّار دونما دعوة رسمية سابقة. ولهذا نجد أن الشاعر المعروف محمد بن شلاّح المطيري قد تطرّق لهذه الجزئية الثقافية في بيت له من الشعر قال فيه:
أمل الوجار وخلّوا الباب مفتوح
خوف المسيّر يستحي لا ينادي
و في هذا البيت الذي ذاعت شهرته بين الناس دعوة معلنة - لكل من يمر من أمام الدّار – تتضمّن إيحاءات لكرم الضيافة العربية ما يبدّد لدى الضّيف مشاعر الاستحياء ويجعله يتجرّأ على القدوم إلى الدّار والجلوس مع صاحب «الوجار», وهو المكان المخصص لوضع الحطب وأدوات ورموز الضيافة العربية السعودية المتمثلة في إضرام النّار وعرض أدوات إعداد القهوة مثل الدّلال والفناجيل والبن والهيل وحطب السّمر والطلح إضافة إلى أدوات أخرى مثل المحماس والملقاط والمنفاخ وغيرها من الأدوات ورموز الكرم الحاتمي.
ومع كتابة هذا المقال, ومع حلول أول أيام موسم المربعانية لهذا العام, فقد بدأت بأول شبّة نار منذ فصل الشتاء من العام المنصرم لخلق أجواء مفعمة بذكريات شبّة النّار, ولجعل دخان النّار يتصاعد من فوق أسوار الدّار لأجل لفت أنظار المارّة وعابري الشارع للدخول إلى الدار والجلوس إلى جانب الوجار وتناول القهوة والتمور السعودية الفاخرة بكل أنواعها وألوانها.
ومن المعروف أن شبّة النّار تثير قرائح الشعراء الذين يستلهمون بعضاً من أفكار قصائدهم خلال جلوسهم بالقرب من النّار المشتعلة في ليالي الشتاء الباردة. ومن هؤلاء الشعراء الأمير محمد الأحمد السديري الذي وصف شبّة النار في بيت من الشعر لا يزال باقياً في ذاكرة الناس رغم مرور عقود طويلة من الزمن, فيقول السديري:
يا بجاد شبّ النّار وادن الدلالِ
واحمس لنا يا بجاد ما يقعد الرّاس
و دقّه بنجرٍ يا ظريف العيالي
يجذب لنا ربعٍ على أكوار جلاّس
و زلّه إلى منّه رقد كل سالي
وخلّه يفوح وقنّن الهيل بقياس
و صبّه ومدّه يا كريم السبالي
يبعد همومي يوم اشمّه بالانفاس
ويقول شاعر آخر في قصيدة له عن شبّة النّار:
يا ما حلا عقب العصر شبّة النّار
في مجلسٍ كل النشاما يجونه
يلفونه اكبار ويلفونه اصغار
من طيب من هو فيه ويقدّرونه
ولذلك نفهم أن لشبّة النّار عند العرب معانيَ سامية وأهدافاً نبيلة إلى جانب أنهم يوقدونها ليلاً للتدفئة واستخدامها في الطبخ وإعداد القهوة وأيضاً لاهتداء ابن السبيل وجلب الضيفان. وفي معجم المصطلحات العامية عند العرب حينما يُهجى أحدهم أو يُنتقد يقال له: «يا طافي الضوء, يا ميت النار, الله يطفي ضوّك, أو الله يذبح نارك», أو قولهم: «فلان ناره رماد», كناية عن عدم رغبته في استقبال الضيوف. وكان كثير من أبناء البادية يحرصون على اقتناء الأنواع الجيدة من الحطب والتي منها السّمر والطلح, وهي الأكثر جمراً والأقل دخاناً.
و عن شبّة النّار يقول الشاعر غازي بن عون:
يا ريف قلبي للمسامير قم شب
وحط المنارة في طويل الظلال
عقب تشق لها جزل الحطب جب
وهات النّجر واحضر جداد الدلال
و أخيراً يقول محمد الأحمد السديري في هذه الأبيات القصيرة عن شبّة النّار:
تسابقن قلبي هواجيسٍ أرداف
الليل طال وحنّ قلبي على الكيف
وناديت من حولي يعجّل بالاسعاف
يشب نار ادلال بيضٍ مزاهيف
يا حسين شب النّار واسرف بها اسراف
حتى يصير الجمر فيها مشانيف