عبد الرحمن بن محمد السدحان
* طُلب من صاحبنا أن يقدّم نفسَه للناس، فقال: أنا إنسانٌ وُلدَ وفي فَمهِ شوكةٌ من شقاء، وشيء من نعيم ذلك الزمان والمكان, لم يكنْ له في كلا الحَاليْن حولٌ ولا طولٌ. كاد المرض أن يفترسَ طفولتَه وهو في المهد وليدًا، لكن الله نجّاه ونصَره على دائه نصرًا مبينًا بعد أن كاد اليأسُ من شفائه يلتهم صبرَ أهله.
* * *
* تقول الرواية: إن جدَّه لأُمه ووالدته الحنون وبعضًا من أهل القرية لبّوا دعوة من أسرة بدوية صديقة كانت تسكن في بيت من شعر، وشدّت أسرةُ الطفل الرحال إلى ذلك المكان بين الجبال، وطفلُهم معهم، لا يكاد يدرك من أمره شيئًا.
* * *
* احتفلت الأسرة البدوية بالقادمين إليها من القرية المجاورة، كان الضيوفُ سعداءَ بالترحيب عدا والدة الطفل التي كانت تغالبُ الدمعَ وهو في حضْنها. وأُحضِرَ الطعامُ تكريمًا للأسرة مكوّنٌ من البُر والسَّمن والعسل وشيء من التمر واللبن.
* * *
* وفجأةً، شُدِهتْ الأم المرزوّةُ بمعاناة طفلها، إذْ به، وبلا مقدّمات، ينظر إلى الطعام في شوقٍ ولهفٍ، فأسْرعت إلى المائدة لتحملَ له بضع لقيمات وهي لا تكاد تصدِّق ما ترى وما تسمع.
* * *
* وضعت الأم بين شفتي الطفل اللقمة الأولى فأكلها وسط ذُهُول الأم والحاضرين، ثم نظر إلى أمه طلبًا للمزيد، فكرّرت ما فعلت وازدادت ذُهُولاً يخالطه الفرح وهو يتناول المزيد من الطعام، وشاركها الفرحَ الحاضرون.
* * *
* ومن ذلك الحين انتهت أزمة الطفل، ورفع اللهُ عنه داءَه، وسرت الحكاية في قرية الضيوف بعد عودتهم إليها، فحمدوا الله وشكروه. أما لماذا كان من أمر الطفل ما كان حين شاهد الطعام، فمعجزة من رب العالمين.
* * *
* وفي المساء، كان يجلس إلى جوار جَده الحنون، وهو يلقّنه بعضًا من سُوَر (جزء عمّ) قبل أن يتناولا ما تيسّر من الطعام عَشاءً، ثم يخلد إلى النوم حتى فجر اليوم التالي، وينتشر الجميعُ مع مطلع الشمس كلٌّ إلى ما يريد، فمنهم من (يسرح) بالغنم، ومنهم من يتجه إلى المزرعة وما تحتاجه من ماء وخدمات أخرى، فإذا كان الظُّهر، تركوُا ما بأيديهم، وخلدوا إلى الراحة في ظلال الشجر، وتناول ما تيسّر من غداء، ثم يستأنفون الجهدَ الشاق بعد صلاة العصر.. حتى تنكفئ الشمسُ نحو المغيب، ويبدأ مسَاءٌ جديد.
* * *
* باختصار، كانت تلك البدايات في حياة الطفل دروسًا مكسُوةً بالفائدة، تعَلّم منها قيمة الاعتماد بعد الله على النفس، وتحوّل في ظلها عبر عدة مدن داخل المملكة الغالية وخارجها، ليزدادَ رصيدًا من المعرفة والخبرة، وكان له بفضل من الله ورحمته، قدرٌ من نجاح تجاوز به ما كان عليه عسيرًا, ولم يكن ذلك الطفلُ سوى محدّثكم.. كاتب هذه السطور.