تهتم العلوم الاجتماعية بدراسة السلوك الإنساني الذي يشمل جوانبه الاجتماعية والثقافية وتضم العديد من العلوم الإنسانية مثل علم الاجتماع وعلم النفس والخدمة الاجتماعية والاقتصاد.
وتعود العلوم الاجتماعية إلى الأصول الإغريقية واليونانية القديمة وتشكِّل تراثاً قوياً في تاريخ الفكر الاجتماعي بسبب استفساراتهم العقلانية عن الطبيعة البشرية والأخلاق، ولذلك فإن علاقة العلوم الاجتماعية بالمجتمع الإنساني علاقة تفاعلية باعتبارها تؤثِّر على بنائه ومستقبله من خلال تمويل البحوث والدراسات العلمية والآثار التي تترتب على الموضعية العلمية.
ولقد اهتم عدد كبير من المفكرين والباحثين في الشرق والغرب بالدعوة إلى إثراء العلوم الاجتماعية ومنها علم الاجتماع. ومن الخبراء في هذا المجال عالم الاجتماع الألماني (يورغن هابرماس) الذي يعد من أهم فلاسفة وعلماء الاجتماع في عالمنا المعاصر، ووحد من أهم أعضاء الجيل الثاني من (مدرسة فرانكفورت النقدية) وهو الاسم الذي اشتهرت به، وتتألف من مجموعة من الفلاسفة وعلماء الاجتماع وعلماء النفس الاجتماعيين والناقدين الثقافيين الذين عملوا خلال الفترة السابقة واللاحقة للحرب العالمية الثانية لصالح (معهد البحث الاجتماعي) الممول تمويلاً خاصاً ومقره فرانكفورت في ألمانيا وتأسست على يد عددا من روادها الأوائل ومنهم «ماكس هوركهايمر, تيودور أدورنو, وماركوزه, وإريك وفروم» الذين تأثروا بالفلسفة الجدلية لهيحل (1770-1831) والأب الروحي للنظرية الصراعية الاجتماعية كارل ماركس (1818-1883). وجاءت نشأتها وولادتها في ظل واقع سياسي واقتصادي بعد الحركة النازية الألمانية بزعامة (ادولف هتلر), وظهور التيار الاشتراكي في ألمانيا بعد أن ساد في مطلع القرن التاسع عشر فيه (النظام الاقطاعي) وقتها لم تعرف ألمانيا تطور النظام الرأسمالي إلا في الأربعينيات من القرن التاسع عشر..! والذي أدى بالتالي إلى تطور النظام الصناعي في المجتمع الألماني.
ولد الفيلسوف والعالم الاجتماعي (يورغن هابرماس) في مدينة غومرسياخ الألمانية عام 1929م وبعد أن أنهى تعليمه العام التحق (بجامعة غوتنغن)، بعد أن كان مولعاً بحب القراءة والاطلاع الواسع الذي ساهم ذلك في تكوينه العلمي والثقافي من خلال قراءته المستمرة للكتب خاصة كتُب الماركسية والأدب والتاريخ والفلسفة، وكان طموح هذا العالم أثناء دراسته الثانوية أن يكون صحفيا، غير أن تأثير بعض أساتذته في الجامعة حفزه على قراءة كتب الفيلسوف المجري جورج لوكاتش (التاريخ والوعي الطبقي) وبالتالي حفزته على الانشغال بقضيَّة العقل، والاهتمام بموقف فكري مختلف عن موقف ممثلي الجيل الأوَّل لمدرسة فرانكفورت النقدية الاجتماعية. وبعد حصوله على الدكتوراه عام 1954م (الفلسفة في علم الاجتماع) من «جامعة بون» العريقة التحق بالعمل بمعهد البحث الاجتماعي في جامعة فرانكفورت، وعرض الفيلسوف (تيودور أدورنو) على هابرماس أن يعمل أستاذاً مساعداً في المعهد وأمضى سنوات قليلة بالمعهد، ثم انتقل للعمل الأكاديمي في «جامعة غوته « ثم في فرانكفورت وجامعة نورث وسترن وجامعة هايدلبرغ، ويُعد من أهمّ مُنظّري مدرسة فرانكفورت النقديَّة. حيث اهتمَّ اهتماماً كبيراً بالنَّقد وأهميَّته في العلوم الإنسانيَّة، وجاء هذا في إطار بحثه في العلاقة بين النظريَّة والممارسة في المجتمع الصناعي المتقدّم، وقد شخَّص هابرماس الانفصال بين النظريَّة والممارسة على أنَّه انفصال بين النشاط الفكري المشتغل بالبحث في المجتمع والإنسان، وبين الاهتمامات العمليَّة للإنسان وقضاياه مثل قضيَّة الحريَّة والعدالة الاجتماعيَّة له أكثر من (40) مؤلَّفاً عن موضوعات عديدة في الفلسفة وعلم الاجتماع والأخلاق والسياسة، وهو صاحب نظريَّة الفعل التَّواصلي. وقد وصل (يورغن هابرماس) إلى درجة من الشّهرة والتأثير العلمي لم ينجح الرَّعيل الأوَّل من ممثلي (النظريَّة النقديَّة الاجتماعيَّة)، المعروفة في حقل الفلسفة بمدرسة فرانكفورت، في الوصول إليها. فعلى الرّغم من الثقل الفلسفي لأفكار الجيل الأوَّل (هوركهايمر- أدورنو- ماركوزه)، كان هابرماس الفيلسوف الوحيد من الجيل الثاني من منظري مدرسة فرانكفورت.. الذي فرض نفسه على المشهد الثقافي والسياسي في ألمانيا بصفته فيلسوف الجمهوريَّة الألمانيَّة الجديدة. إنَّه بالفعل يُعدُّ الوريث الرئيس المعاصر لأفكار مدرسة فرانكفورت. وعلى الرّغم من أنَّ هناك أفكاراًمشتركة واضحة بينه وبين أسلافه، لكنه أخذ بأفكار المدرسة منحى مختلفاً، فقد ركَّز جُلَّ اهتمامه على تحليل الفعل والبنى الاجتماعيَّة. ويعد هذا العالم الفذ رائد «نظرية الفعل التواصلي» بعد أن وضع أسسها وكتب العديد من المقالات حول أخلاقيات الخطاب ومؤلفاته في هذا السياق ومنها كتاب (نظرية الفعل التواصلي) وهو مؤلف من مجلدين صدر عام 1981. حيث عرف فعل التَّواصل بأنَّه الذي يتمُّ من خلاله تفاعل المشاركين، كما يستخدمون من خلاله اللغة وسيلة لفهم وتفسير المواقف المتبادلة، وكذلك تفسير الأهداف والغايات الشخصيَّة. ويرى هابرماس أنَّ أي إنسان يعمل بطريقة تواصليَّة، أي يقوم بأداء فعل التَّواصل، يجب أن يثير دعاوى صحَّة عامَّة، ويفترض أن تكون هذه الدعاوى مبرَّرة؛ أي عليها حجَّة وبرهان، والخلاصة إنَّ الفعل التَّواصلي- حسب هابرماس- يهدف إلى تحقيق التَّواصل الفعَّال بين أعضاء المجتمع، كما يهدف إلى تحقيق إجماع عام بين جميع المشاركين في هذا الفعل التَّواصلي، وهذا الفعل التَّواصلي يكون أكثر عقلانيَّة من أيّ فعل آخر، كما أنَّ هذا الفعل التَّواصلي يجعل التفاعل متَّسقاً ومتناغماً، ويؤدي فعل التَّواصل أيضاً دوراً محوريَّاً في تشكيل الهويَّات الشخصيَّة، ومن خلاله يتمُّ استخدام اللّغة وسيلة فعَّالة في فهم وتفسير المواقف المتبادلة، وتفسير الأهداف والغايات الشخصيَّة.
ولاشك أن الفيلسوف والعالم الاجتماعي التسعيني الشهير (هابرماس) يعد أخر سلالة مدرسة فرانكفورت الاجتماعية.. وواحد من أهم المنظرين الاجتماعيين وأوسعهم انتشارا في حقبة ما بعد الحرب العالمية والثانية.. ذلك وفي خضم كتاباته النظرية المؤثرة في مناحي عدة من العلوم الاجتماعية والإنسانية وأعماله التي تتجاوز الحدود التخصصية التي يعمل في إطارها أغلب الأكاديميين والباحثين وما زال وهو يهرول في (عقده التاسع) بفكر حيوي رصين ونشاط بحثي متقد.. كواحد من أبرز المفكرين الفلاسفة في الشأن العام في أوروبا في واقعنا المعاصر بعد أن توج مسيرته العلمية والبحثية بحصوله على العديد من الجوائز العلمية وأبرزها: جائزة غوتفريد ويلهلم ليبنز (1984) ووسام هلمهولتز (2000). وجائزة السلام الألمانية لتجارة الكتب (2001), وجائزة أميرة أستورياس في العلوم الاجتماعية 2003, وجائزة كيوتو للفنون والفلسفة (2004), جائزة هولبرج 2005م وجائزة إيراسموس (2013).
** **
- خالد الدوس