داوم القاص الأوروغوايي إدواردو غاليانو على التجريب في القصة القصيرة دون غيرها من صنوف الكتابة السردية وأجناسها الأدبية. فطوّر كتابتها باستعمال أساليب مختلفة، ومنها أسلوب الرزم الزماني أو الرزمنة الذي به يتمكن القاص من العبور بالأحداث وتغيير ملامح زمانيتها، فلا تكون اللحظة الأرشيفية هي لحظة توثيق الحدث بالكتابة، بل تكون لحظة تأرخة الحادثة شفاهيا ثم تلقيها قرائيا.
ومن المجموعات القصصية التي بناها غاليانو على طريقة الرزمنة (كرة القدم في الشمس والظل) وفيها قارب بين الحياة وكرة القدم. فمثلما كرة القدم لعبة كذلك الحياة رحلة يسعى البشر فيها إلى الظفر بآمالهم خائضين مغامرات وقاطعين جولات متأملين النفع أو مرتجين الربح أو متوقعين الخسارة (تدور الكرة والعالم يدور يعتقد بأن الشمس هي كرة مشتعلة تعمل خلال النهار وتتقافز في الليل هناك في السماء..) فغاليانو يجد في القصة القصيرة وسيلة لكتابة تأريخ كرة القدم كمباراة، فيها يتلاقى القص بالتأرخة في نقطة واحدة هي أن تاريخ البشر على سعته، مختزل أمام تاريخ الكون على تنوع مآلاته.
وبوصف الرزم طريقة في العبور الاجناسي من القصة القصيرة إلى الرواية، فكك غاليانو التاريخ وقواعد كتابته. وأول قاعدة هي انتهاك قاعدة المحاكاة من خلال الرضوخ للروزنامية بذكر (أرقام الحافلات/ أرقام غرف الفندق..) ثم قراءتها سيميائيا فضلا عن جمع (الاختراعات الحاسمة الكبرى في تاريخ البشرية: العجلة الملعقة الكتاب.. التي هي أدوات عظيمة.. ذات فعالية لا يمكن الاستغناء عنها. كل شيء يدعو إلى افتراض في النهاية أن السيمولوجيا في الحقيقة هي أحد الاختراعات الرئيسة في تاريخ الإنسانية وإحدى أقوى الأدوات التي لم يصنع مثلها الإنسان لكنها تشبه النار والذرة: لم نعرف دوما في البداية في ماذا نستعملها ولا كيف نستعملها)
ويبدأ غاليانو مجموعته باعتراف مفاده أنه رغب مثل كل الأوروغوايين في أن يصبح لاعب كرة قدم لكنه صار كاتبا، وحقق بيديه ما لم يحققه برجليه. ومن تبعات استعمال غاليانو طريقة الرزمنة ذكره السنوات بادئا بالعام 1919، ومنتهيا بالعام 1994، مستعرضا خلالها تاريخ المونديالات وما جرى في كل واحد منها من أحداث مهمة وأسماء معروفة وأهداف لا تنسى (الهدف الالمبي/ ثامورا وساميتر/ هدف سكاروني/ القوى الخفية/ مونديال 1930/ كامور الصناديد/ الاحتراف/ مونديال 1934/ مونديال 1938/ هدف اناليو/ مورنيو/ بيديرنيرا/ هدف سيفيرينو/ قنابل/ هدف هيلينو/ مونديال 1950/ باربوسا)
وتأتي أول قصة وعنوانها (كرة القدم) كرحلة حزينة لتاريخ هذه اللعبة التي تبدأ بالمتعة، وتؤدي إلى الواجب، وكلما تحول هذا الواجب إلى صناعة استبعد الجمال وغابت المتعة وحل الاحتراف محلهما. ومتى ما استبعدت الأرباح عادت البراءة وتحول المرء إلى طفل يلعب بالكرة أو بالبالون و(مثلما تلعب القطة بكبة خيوط صوفية يصبح راقصا يرقص بكرة خفيفة مثل البالون الذي يطير في الهواء أو مثل كبة الصوف التي تتدحرج لاعبا دون أن يدري أنه يلعب ودون أن يكون هناك سبب أو توقيت أو حكم. لقد تحول اللعب إلى استعراض فيه قلة من الأبطال وكثرة من المشاهدين إنها كرة القدم.. واحدة من أكثر الأعمال التجارية ربحا في العالم لا يجري تنظيمها من أجل اللعب، وإنما من أجل منع اللعب. لقد راحت تكنوقراطية الرياضة الاحترافية تفرض على كرة القدم أن تعتمد السرعة المحضة والقوة الكبيرة وتستبعد الفرح وتستأصل المخيلة وتمنع الجسارة).
ويشكل إدواردو غاليانو قصص مجموعته هذه من عناصر أو مكونات لعبة كرة القدم، مفيدا من أجناسية القصة القصيرة العابرة، ليصنع تأريخا سرديا خاصا به كما في قصة (حارس المرمى) الذي هو العنصر الأول ويصفه باسترسال تعبيري قائلا: (يسمونه كذلك البواب والغولار وحارس الحاجز وحارس القوس، ولكننا نستطيع أن نسميه الشهيد الوثن النادم أو المهرج الذي يتلقى الصفعات، ويقولون إن المكان الذي يطاله لا ينبت فيه العشب أبدا. إنه وحيد محكوم عليه بمشاهدة المباراة من بعيد ينتظر وحيدا إعدامه رميا بالرصاص بين العوارض الثلاث. الحشود لا تغفر لحارس المرمى. اقفز في الفراغ؟ أكان مثل الضفدع؟ هل أفلتت منه الكرة أأصبحت اليدان الفولاذيتان حريرا؟ بخطأ واحد يدمر حارس المرمى مباراة كاملة أو يخسر بطولة وعندئذ ينسى الجمهور فجأة كل مآثره ويحكم عليه بالتعاسة الأبدية وتلاحقه اللعنة حتى نهاية حياته).
والعنصر الثاني هو (المعبود) ويسرد تأريخه رزما (هو اللاعب الذي يطير في الاستادات البهلواني، الكرة تبحث عنه تتعرف عليه تحتاج إليه وعلى صدر قدمه تستريح وتتأرجح. إنه يخرج منها الألق ويجعلها تتكلم.. ولكن المعبود يبقى معبودا لبرهة وحسب أبدية بشرية شيء لا يذكر) والعنصر الثالث المرزوم هو (المشجع) ورسمه بهذه الهيأة الكاريكاترية (يلوح بالمنديل يبتلع لعابا، غلوب، يبتلع سُماً، يأكل قبعته، يهمس بصلوات ولعنات ثم يمزق حنجرته فجأة بهتاف مدو ويقفز مثل برغوث معانقا المجهول.. نادرا ما يقول المشجع اليوم يلعب ناديّ. إنه يقول عادة اليوم سنعلب نحن. وهذا اللاعب رقم اثني عشر يعرف جيدا انه هو من ينفخ رياح الحماسة التي تدفع الكرة حين تغفو مثلما يعرف اللاعبون الأحد عشر الآخرون جيدا أن اللعب دون مشجع هو أشبه بالرقص دون موسيقى).
والعنصر الرابع هو المتعصب الذي قد (تصل به الوقاحة في أي لحظة إلى إبداء رأيه بأن فريق الخصم يلعب لعبا صحيحا وعندئذ يحصل على ما يستحقه) والعنصر الخامس هو الجول والسادس هو الحَكَم (إنه الطاغية البغيض الذي يمارس ديكتاتورية دون معارضة ممكنة والجلاد المتكبر الذي يمارس المطلقة بإيماءات أوبرا الصفارة في فمه ينفتح الأهداف أو يلغيها البطاقة في يده يرفع ألوان الإدانة: الأصفر لمعاقبة المذنب وإجباره على الندم والأحمر يلقى به إلى المنفى.. خلال أكثر من قرن كان الحكم يرتدي لون الحداد على من؟ على نفسه اما الآن فانه يخفي حداده بالألوان)
وعلى هذه الشاكلة يستمر السارد في رزم عناصر كرة القدم وهي على التوالي وكل عنصر عبارة عن قصة قصيرة (المدرب الفني/ المسرح/ الاختصاصيون/ الاستاد/ الكرة/ الأصول/ قواعد اللعبة/ الغزو الإنجليزي/ كرة القدم الأمريكية اللاتينية/ قصة الفلا وفلو/ أهي أفيون الشعوب/ الكرة كراية/ ثامورا/ سامييز).
وكثيرا ما تحفل قصص غاليانو بالدرامية التي تضيف إلى فعل الرزمنة واقعية وتجعله مشوقا من ذلك مثلا قصة (هدف زيزينهو)، (حدث ذلك في مونديال 1950 في المباراة ضد يوغسلافيا حين قام زينزينهو لاعب هجوم البرازيلي بتسجيل هدف مكرر، كان هذا السيد للظرافة في كرة القدم قد أدخل هدفا نظيفا، ولكن الحَكَم ألغى الهدف دون وجه حق، عندئذ كرر زينوينهو الهدف خطوة خطوة، دخل إلى منطقة الجزاء من المكان نفسه الذي دخل منه في المرة الأولى.. وسدد الكرة إلى الزاوية بالضبط، ثم ركل الكرة بعد ذلك بغضب عدة مرات باتجاه الشباك، عندئذ أدرك الحكم بأن زيزينهو قادر على تكرار ذلك الهدف عشر مرات أخرى، ولم يجد مفرا من قبول الهدف واحتسابه)، وحين انتقل إلى عقد الستينيات ذكر هدف بوشكاش وهدف سانغيليو.
وأنهى غاليانو مجموعته (كرة القدم في الشمس والظل) بالاستياء من هذا التاريخ الذي لم يؤرخ لأشهر لعبة في أمريكا اللاتينية (فراغ مذهل: التاريخ الرسمي يتجاهل كرة القدم نصوص التاريخ، لا يذكرها ولو بصورة عابرة في بلدان كانت كرة القدم فيها -وما زالت- علامة رئيسة من علامات الهوية الجماعية. أنا ألعب إذن أنا موجود.. قل لي كيف تلعب أقُل لك من أنت).
** **
- د. نادية هناوي