قضايا شائكة متعددة يناقشها كتاب «المنسيات العظيمات» الذي صدر في حوالي 325 صفحة عن دار نشر اكونوكلاست الفرنسية في 2021م، وعن سبب تأليفها لهذا الكتاب، تقول تيتيو لوكوك بأنها تأثرت بفيلم وثائقي تناول الاضطرابات التي حدثت في فبراير 1966م في مقر المصنع الوطني للأسلحة الحربية في منطقة هيرستال في بلجيكا عندما طالبت النساء اللاتي كن يعملن كالآلات بتطبيق المادة 119 من معاهدة روما التي تنص على المساواة في الأجر بين الرجال والنساء.
في هذا الكتاب، تُحاول الصحفية والروائية الفرنسية تيتيو لوكوك أن تُعيد الحياة إلى النساء الفرنسيات اللاتي تم نسيانهن في بعض العصور الفائتة.
تذكر المؤلفة أنه في القرنين الثاني عشر والثالث عشر كانت النساء يتمتعن بحرية الحركة في الأماكن العامة ويمارسن مجموعة متنوعة من المهن ويعملن داخل الكاتدرائيات.أما في الفترة التي استمرت من القرن الرابع عشر الميلادي إلى القرن السابع عشر والتي أطلق عليها المؤرخون عصر «السجن الكبير»، فقد تم إقصاء المرأة بسبب التعصب الذي أصيب به الفرنسيين حيث مارس الرجال ضغوطا كبيرة عليها لتظل حبيسة في بيتها.
تتألم تيتيو لوكوك عندما تقرأ كتب التاريخ المقرّرة على طلاب المدارس في فرنسا ولا تعثر على اسم امرأة واحدة مشهورة. هنا تتساءل المؤلفة: ألم تفعل النساء شيئا سوى انتظار أزواجهن في الكهوف أو في الدّور؟ بكل تأكيد لا، أنهن يفعلن الكثير، ومع ذلك، فإنهن غائبات ومنسيات ولا يذكرن على الإطلاق.
لا ترغب المؤلفة في توجيه أصابع الاتهام إلى شخصيات بعينها، لكنها تفضل الحديث عن «هيمنة المجتمع الذكوري» ببنيته الثقافية المتجمدة وعن الدور الذي مارسه هذا المجتمع في تقييد التوجه التنموي للنساء منذ قديم الزمان، دليلها على ذلك أنه في عام 1793م صوّت النواب الفرنسيون على منع السيدات من السير مع أكثر من خمسة نساء في الطرقات لمنع المخاطر الناجمة عن ذلك، الأمر الذي يعني حظر الكثير من حقوقهن والحد من نشاطهن ومنعهن من الحركة بحرية.
تقدم لنا تيتيو لوكوك من خلال كتابها « المنسيات العظيمات « رؤية نقدية للمجتمع الفرنسي قديمه وحديثه الذي أهمل دور النساء في الحياة الاجتماعية وتجاهل مشاركتهن في مختلف المجالات على الرغم من المكانة الكبيرة التي احتلتها المرأة والدور المحوري الذي لعبته عبر التاريخ، وهي بذلك تحاول تذكير القارئ بهؤلاء النساء وإعطائهن المكانة التي تليق بهن.
يهدف كتاب « المنسيات العظيمات « إلى توضيح السبب الذي من أجله يتم محو النساء من سجلات التاريخ. تذكر المؤلفة على سبيل المثال حالة كاترين برنارCatherine Bernard الشاعرة الفرنسية وأول كاتبة مسرح تم عرض أعمالها على خشبة المسرح الفرنسي في القرن السابع عشر لكن سرعان ما نُسبت هذه الأعمال إلى الكاتب الفرنسي برنارد دو فونتينيل Bernard de Fontenelle في القرن الثامن عشر حيث كان نشر الأجناس الأدبية المختلفة قاصرا على الأدباء الرجال فقط. تندهش الروائية الفرنسية تيتيو لوكوك من هذا المجتمع القائم على السلطة الذكورية المهيمنة وهي بذلك تسعى إلى فهم وتحليل الآليات التي تفسر علاقات القوة التي لا يزال يتردد صداها حتى اليوم.
تُذكّرنا المؤلفة تيتيو لوكوك أيضا بالشاعرة انهيدوانا Enheduanna التي لا يعرفها الطلاب في فرنسا، على الرغم من أنها تُعتبر أول من كتب مخطوطة في تاريخ البشرية وفقا لما ذكره علماء الآثار في مدينة أور القديمة الذين عثروا على قرص حجري باسمها مدون عليه أنها ابنة سرجون ملك أكاد.
في هذا الكتاب تخاطب تيتيو لوكوك القارئ وتذكّره بأن العديد من الملكات القويات حكمن فرنسا؟ فالملكة برونهاوت Brunehaut ملكة فرنسا تم اعدامها عام 613م، ألهذا يٌمحى اسمها من كتب التاريخ المدرسية المعاصرة، هكذا تتساءل المؤلفة باستغراب عبر صفحات كتابها «المنسيات العظيمات».
تلاحظ المؤلفة تيتيو لوكوك ان نفس سيناريو التجاهل أو النسيان يتكرّر في العصر الحديث مع إديث كريسون Edith Cresson أول امرأة تتولى منصب رئيس وزراء فرنسا في الفترة من 15 مايو 1991 إلى 2 أبريل 1992 والسياسية الفرنسية المحنكة التي شغلت منصب المفوض الأوروبي المكلف بالبحث والابتكار والعلوم في الفترة من 1995 إلى 1999. وبصرف النظر عن البعد التاريخي لهذا الموضوع، فإن كتاب «المنسيات العظيمات» يطرح أسئلة حول إقصاء المجتمع الفرنسي للمرأة ويحاول إيجاد الحلول المناسبة لها من أجل ضمان ألا تنسى الأجيال المستقبلية الماضي المشرق لنساء أفنين سنوات من حياتهن لكي تحيا فرنسا.
سيظل القارئ يتساءل مع مؤلفة كتاب « المنسيات العظيمات «: لماذا تغيب النساء الرائدات عن كتب التاريخ المدرسية في فرنسا؟ أهو النسيان أم المحو المتعمد أم كلاهما مها؟
ختاما وبعيدا عن مضمون كتاب « المنسيات العظيمات»، ربما يقارن القارئ العربي بين وضع المرأة في فرنسا في هذه العصور ووضعها في المنطقة العربية، وربما يتذكر هذا القارئ أشهر شاعرة عربية في القرن السابع الميلادي تماضر بنت عمرو بن الحرث بن الشريد السلمية المعروفة بالخنساء التي غلب على شعرها الرثاء، وربما يدرك ذلك القارئ كيف أن الحُفَّاظ من الرجال الواحد منهم تلو الآخر حافظوا على هذا التراث الشعري من الضياع وحفظوه في صدورهم ونسبوه إليها وتناقلوه جيلا بعد جيل حتى وصل إلينا دون حذف أو إضافة، ألا يدل ذلك على المكانة المرموقة التي حظيت بها المرأة العربية منذ قرون مضت مقارنة بمكانة غيرها من الجنسيات الأخرى.
** **
د. أيمن منير - أكاديمي ومترجم مصري