حنان بنت عبدالعزيز آل سيف
يخلط كثير من الناس بين مؤسستين معرفيتين، وجامعتين أكاديمتين عرفهما التاريخ العربي على مد النظر، وتطاول العهد، في حين أن بينهما كل الفرق وأعظم التباين، والفرق بينهما يحوي الحقائق العلمية التالية:
أولاً: بيت الحكمة:
بيت الحكمة أول وأعظم جامعة أكاديمية عرفها الزمان، وكانت في عصور الإسلام الذهبية، أي في العصور الوسطى في خضم عز ونفوذ وقوة الدولة العباسية الناهضة.
هي مؤسسة علمية فكرية غنى لها التاريخ ورجز لها المجد، وظلت تجمع بين أهابيها غرر المعارف، وأصناف الفنون، وتنوع الآداب حتى طالتها يد المغول العابثة، حيث اجتاحها رئيسهم هولاكو سنة 656هـ في حادثة سقوط بغداد الأبية، حيث قاموا بحرقها وتدميرها بإغراق مصنفاتها، فكان حرقها أبشع جريمة عرفتها الحضارة الإسلامية ،وكان القادح لزنادها، والذي فتق فكرتها،وبوصلة حياتها والذي يعود إليه الفضل في إنشائها هو الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، والذي مدَّ الحضارة الإسلامية، والثقافة العربية بيد عجز عنها الآخرون من قبله وثمة من بعده حيث أرسل أبو جعفر المنصور إلى امبراطور الروم يطلب منه بعض كتب اليونان، فبعث إليه بكتب الطب والهندسة والحساب والفلك ، ثم قام باستقدام الكثير من الكتب التي ازدانت بها الهند والروم وفارس، فعمد الى طائفة من المترجمين لنقلها إلى اللغة العربية، فترجمت له كتب أرسطو، وفور فوريوس، وبطليموس، واقليدس وغيرهم، ويذكر الرحالة الجغرافي أبو الحسن المسعودي في كتابه (مروج الذهب) أن الخليفة أبا جعفر المنصور أمر بعمل ترجمات من اللغات الأجنبية إلى العربية، وأمر بالكتب القديمة للسنسكريتية والفرس واليونان والهنود فترجمت، فهو أول خليفة يترجم له من الأعجمية إلى العربية.
ثم إنه أمر بإنشاء خزائن في قصره لاحتوائها غير أن دائرتها اتسعت وضاق القصر بها، فما كان من الخليفة هارون الرشيد إلا أن جعلها أكاديمية علمية بكل ما تتسع له الجامعة من العلوم، وأراد أن تكون مقصداً للعلماء والدارسين ومريدي المعرفة، وأضاف لها الرشيد نفائس اليونان وكل ما ألف وصنف وترجم وعُرِّب من الآداب، يقول عنها الأديب القفطي: إن بيت الحكمة كان رمزاً للمناحي العلمية المختلفة، فهارون الرشيد هو الذي ابتدع فكرة هذا المعهد، وتبناه ابنه المأمون والحكمة في رأي العلماء المسلمين هي العلوم الإلهية والعددية وصناعتا الطب والنجوم.
أما ابن خلدون فيقول: إن الإسلام مدين إلى هذا المعهد العلمي باليقظة الإسلامية الكبرى التي اهتزت بها أرجاؤه والتي تشبه في أسبابها انتشار التجارة وإعادة كشف كنوز اليونان، وفي نتائجها ازدهار العلوم والفنون.
وبيت الحكمة هو بيت لا يستهان به، فقد قصده من المؤرخين الواقدي والأصمعي، ومن الشعراء أبو العتاهية والعباس بن الأحنف. وأما عصره الذهبي فكان عصر المأمون، وكان يطبق نظاماً سياسياً رائعاً حيث كان يعقد بينه وبين أي ملك اتفاقاً يقضي بإرسال أغلى وأنفس ما تحويه خزائن دولته، وفعل هذا مع مخائيل الثالث قيصر الروم، وأخذ منه أنفس الكتب وهو كتاب بطليموس في الفلك، وبعد أن ترجم للعربية أطلق عليه اسم المجسطي، ولم يكتف المأمون بذلك، بل كان يفتدي الأسرى والمغلوبين بمخطوطات اغريقية قديمة يدفعونها له فيفرج عنهم في مقابل ذلك ، كما أمر بوضع خريطة للعالم، فوضعت له أول خريطة سميت بالخريطة المأمونية.
ويحوي بيت الحكمة من الفرائد على (300) مجلد من الكتب البديعة النسخ أهداها صلاح الدين الأيوبي إلى الخليفة العباسي في بغداد، كما قام نصير الدين الطوسي بإنقاذ ما يقرب من (400,000) مخطوطة نقلها إلى مرصد مراغة في أذربيجان .وذكر ابن النديم في الفهرست أسماء من قاموا بترجمة الكتب الهندية واليونانية والفارسية والسريانية والنبطية ، فكان من أبرز مترجميها: يوحنا بن ماسويه، والفضل بن سهل ومحمد بن الجهم البرمكي، والقائم عليها سهل بن هارون، ومن مترجميها إسحاق بن حنين الذي بلغ عدد تلاميذه من المترجمين مئة مترجم، كما كان لها نساخ من أشهرهم علان الشعوبي الوراق الذي كان عارفاً بأنساب العرب، ومن علمائها محمد بن موسى الخوارزمي ويحيى الفارسي والبلاذري.
وتطورت حركة التأليف والتصنيف بجانب حركة الترجمة، فأغلب المترجمين برعوا في الترجمة والتأليف ومن مشهوريهم: أبو يوسف يعقوب والحسن بن سهل، وأبرز دليل على شغف علمائها بالتأليف أن يعقوب بن اسحاق الكندي ألف 231 كتاباً، وهناك علماء وصلت كتبهم الى 300 كتاب، ومنهم من جاوزت المئة كتاب، هذا ولم يزل بيت الحكمة في علو وارتفاع حتى بنى له المأمون مرصداً فلكياً يدعى الشماسية وألحق به. وعاش بيت الحكمة زمناً طويلاً فارهاً حيث تعاقب عليه 32 خليفة بل قيل: 37 خليفة وتطاول من عهد الرشيد الى سقوط بغداد سنة 656هـ ، وظل النهر الذي أغرقت فيه كتبها يئن بمداد وحبر الورق الأسود ستة أشهر متعاقبة.
ثانياً: دار الحكمة:
جامعة فاطمية عريقة، وصومعة فكرية تليدة، أسسها خلفاء الدولة الفاطمية، في القاهرة سنة 395 هجرية لتنافس بيت الحكمة في بغداد. وكان العزيز الفاطمي خامس الخلفاء الفاطميين محباً للقراءة جماعاً للكتب فأسس في قصره مكتبة كبيرة وكلف وزيره يعقوب بن كلس بجمع الكتب من سائر الأمصار. وكان الخليفة يريد أن يشغل العلماء والناس عن الخلافات الطائفية، ويروي لنا المسبحي مؤرخ الحقبة الفاطمية في مصر أنه في نيسان من عام 1005م أمر الخليفة بإنشاء دار للعلم في القاهرة لصرف الشباب عن النقاش في أمور الفقه والأمور الطائفية إلى العلم والدراسة والبحث.
هذا وقد تألق المؤرخ الكبير أحمد بن علي المقريزي في وصفها، وذكر أن دار الحكمة في القاهرة لم تفتح أبوابها للجماهير إلا بعد أن فرشت وزينت وزخرفت وعلقت على جميع أبوابها وممراتها الستور، وعين لها القوام والخدام ، وكان عدد الخزائن فيها أربعين خزانة تتسع الواحدة منها لنحو ثمانية عشر ألف كتاب، وكانت الرفوف مفتوحة، والكتب في متناول الجميع، ويستطيع الراغب أن يحصل على الكتاب الذي يريده بنفسه ما تيسر له ذلك، فإن ضلّ الطريق استعان بأحد المناولين.
ووصفها القلقشندي بوصف قريب من وصف المقريزي.
ومما ذكر عنها أيضاً أنها مقسمة إلى أقسام عدة، منها ما هو مخصص لفئة العلماء وطوائف الفقهاء، ومنها ما خصص للقرآن الكريم، ومنها قسم معد لعلماء الفلك ومنها قسم للغة والنحو وآخر للطب.
كما بلغت خزائن كتبها مبلغ الأربعين خزانة، كما مرّ بنا في نعت المقريزي السابق، كما دونت في قائمة على أبواب هذه الخزائن مسميات الكتب وعناوين المخطوطات، واشتهرت باحتوائها على أكثر من نسخة للكتاب الواحد، فهناك قريب من 30 نسخة لكتاب الخليل بن أحمد الفراهيدي المسمى بالعين، ومئة نسخة لكتاب الجمهرة لابن دريد، وألف نسخة لتاريخ الطبري، ومما زاد هذه الكتب أهمية وشأناً كونها مكتوبة بخطوط مؤلفيها، ومن أشهر خطاطيها الوزير ابن مقلة، وابن البواب.
ومن أبرز من قام عليها أبو نصر المعروف بالشيرازي الذي بلغت مؤلفاته ثمانية مجلدات.
كما وصفتها المستشرقة الألمانية زاغريد أونكه في كتابها ( شمس العرب) قالت: ( لا أحد يستطيع أن يقارن نفسه بالخليفة العزيز في القاهرة ).
وأضافت ( حوت مكتبة العزيز 10600000 مجلد ، فكانت بذلك أجمل وأكمل دار ضمت 6500 مخطوطة في الرياضيات و18000 في الفلسفة ) وفيها تم توفير أدوات الكتابة من مداد وحبر وورق وكانت رهن اشارة الباحثين.
غير أنه لكل شيء إذا ما تم نقصان، فقد أحرق العابثون كثيراً من كتبها بعد نشوب الخلاف بين الجنود السودانيين والأتراك في مصر، وهي نهاية مأساوية وحرب شعواء على صرح من صروح العلم المتطاولة، ومما ذكر أيضاً عنها أن بعض الناس جعل من جلودها وأغلفتها أحذية تلبس ونعالاً توطأ، وعرض في وقت الفقر والجوع المجلد الكامل النفيس برغيف جاف من خبز فقير ولم يبق من كتبها إلا مئة ألف كتاب كانت حين دخول صلاح الدين الأيوبي القاهرة العامرة.
مراجع المادة:
-في قاهرة المعزكانت دار العلم منارة للإنسانية.
موقع : الباحثون السوريون 26/6/2014م.
-دار الحكمة- المعرفة 26 جمادى الآخرة 1432هـ.
-بيت الحكمة – المعرفة 7 جمادى الأولى 1436هـ.
-بيت الحكمة أسسها الرشيد وطورها المأمون، بالإرث اليوناني.
الاقتصادية الجمعة 28 اكتوبر 2016م.
-من الذي أنشأ دار الحكمة من الخلفاء؟
موقع إجابة 4-5 – 2014م.
** **
-بنت الأعشى-