أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: في دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي علمه أمته في الصباح والمساء: (اللهم إني أعوذُ بك من الكسلِ والهَرَم، والجبنِ والبخلِ، وسوء الكِبَرِ، وفتنةِ الدجال وعذابِ القبر)، وفي ضبط الكبر وجهان: أحدهما كسر الكاف وسكون الباء من باب إضافة الصفة إلى الموصوف بمعنى الكبر السيئ، وكنت أَلِفْتُ هذا الضبط طيلة عمري، ولما كنت في منزل الشيخ أبي تراب الظاهري رحمه الله بجدة في ذلك الوقت وقع نظري على الأدعية التي جمعها الشيخ أبو تراب من الصحيحين فوجدته ضبطها على الوجه الثاني بفتح الباء فلما ناقشته أحضر مراجعه، ورأينا الأرجح المقدم في السياق ما اختاره أبو تراب في الضبط وهو فتح الباء وهذا الوجه هو الذي تشهد له دلائل ضعف الشيخوخة ووهنها والرد إلى أرذل العمر؛ ولهذا ابتهل نبي الله زكريا عليه السلام إلى ربه بأن يهبه ولياً يرثه ويرث من آل يعقوب، وعلَّل عليه السلام ابتهاله بوهن العظم واشتعال الرأس شيباً.
قال أبو عبدالرحمن: ولقد نشأتُ صغري في صحبة وكنف جيل من أشياخنا العوام، ولي ثمة تداعيات تاريخية سارة، وأبْركُ لحظات حياتي هي تلك السنوات الأولى بصحبة الأشياخ في شقراء قبل تلوث عقولنا بغوامض الفكر وانبهار سلوكنا بمتع الحياة وتلاشي نشأة الفطرة والبساطة، ولهذا أحمل أعباء كثيرة من هموم النشأة، وإنني أحن حنيناً شديداً إلى القرية، ولكن القرية أصبحت مدينة صغيرة ثم محافظة، وانسحبت عنها رويداً رويداً ذكريات الماضي، وإنني أحن إلى ملامح الشيوخ كما كنتُ أعرفهم بأزيائهم وسحناتهم المشرقة بنور الإيمان، وكنت سابقاً أغبطهم لما أرى لهم من مكانة سامية في المجتمع، لأنه لا يزاحم مكانتهم شباب يدعي الثقافة، وكانوا يغمرون الأندية والمركاز فتهفو القلوب إلى طيب محضرهم، وحلاوة معشرهم، واليوم أصبحت أخاف الشيخوخة، لأنني أراهم يُسدل عليهم الستار بين جدران الدارات، كما أرى الغفلة عنهم في ضجيج المدينة وصخبها.
قال أبو عبدالرحمن: تعلمت من هؤلاء الأشياخ العوام الفطريين أموراً ليتني أستديمها، ففي هؤلاء الأشياخ طبع المؤمن الغر الكريم بلا استثناء، ولهم أوراد موظفة وابتهال ودعاء لا يتركون كفارة المجلس، ولا تخطر الريبة ببالهم، ولكل ريبة عندهم محملٌ حسن، والدمعة تملأ محاجرَهم وذكرُ الله يرطِّب ألسنتهم دائماً.
قال أبو عبدالرحمن: وعني أحدثكم أن من تجاوز الأربعين، ونشأته كما أسلفت لكم، حريٌ بأن يشد المئزر أسوة بأهل المدينة المنورة في سالف الزمان يتأولون خبر الله عمن بلغ الأربعين وبلغ أشده، وفيما بعد الأربعين نذارة الإعذار لمن أراد الاعتبار، وطلائع الوقار لمن أراد أن يعتز بشيخوخته فيسترد بها ما فات من تفريط، وابن هذا الظرف يروعه أن يقلع ضرساً استهلكه الدهر، أو يلحظ شيئاً من نقص قواه الجسمية والفكرية، وكأنه يُحس بدبيب الفناء، ولكن أسعدهم من كان متزوجاً مبكراً ثم أحسن التربية لولده وأهله، فأكرمه ولده بالسرور لما يراه من صالح أعمالهم في ذات أنفسهم، ثم كثرت رعيته الصالحة فأحس بعز السلطان بينهم، أما أن يفح في لحيظات أُنْسِه ذكريات الشباب المريرة فذلك ظاهرة خيرٍ بلا ريب، ولا يَرُوعه إنْ أسرع الفيأة ودقَّق الحساب، وإن الله يرحم شيبة الإيمان، ويسميه أهلُ جيلِنا (شيبة الحمد)، وإنَّ صلاح وفيأة أبناء ما بعد الأربعين صلاح العارف الصادق المجرِّب الذي تنفعه الذكرى.
قال أبو عبدالرحمن: نحن أبناء الأمة المحمدية أعمارنا بين الستين والسبعين، ونحن أقصر الأمم أعماراً، لأن من قبلنا عمَّر مئات السنين، ولبث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وتقاصرت الأعمار إلى عهد الجاهلية الأولى حيث وجد قلة بلغوا المئتين أو تناوشوا الثلاث مئة، وقد تقصى أعمارهم السجستاني في كتابه (المعَمرين)، ثم وجدت نوادر من المعمرين في العصور الإسلامية بلغوا مئة عام إلى مئة وخمسين عاماً، وقد تقصى أخبارهم شمس الدين الذهبي الحافظ في كتابه من (عمر مئة عام من الرواة)، ووجدت خرافات وأكاذيب في بعض كتب الفهارس والإثبات في القرون المتأخرة فيما بعد القرن العاشر ممن يدعي علو الإسناد ويجعل بينه وبين البخاري مثلاً ثلاثة أفراد على أن كل واحد منهم تجاوز ثلاث مئة عام، وهم أشخاص مختلفون لا وجود لهم، أما المعتاد من أعمار أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهو أنهم يعيشون ما بين الستين والسبعين، ولما قضى الله بأن تكون أعمار أمة محمد صلى الله عليه وسلم أقصر الأمم أعماراً، جعلهم أكثر نسلاً وامتداداً على طول التاريخ وعرضِه، فكانوا أكثر أجيالاً، وكانوا أقل وأخف تكليفاً، وكانوا أعظم أجراً، وكانوا شهداء على الناس، وكانوا أمة مرحومة على وجه العموم.
قال أبو عبدالرحمن: فإذا كان لي لحظة تأمل - لا تفلسف - في هذه الأعمار: فإنني أقيس العبرة بأبناء الزمن الحاضر، لأنه أقرب للموعظة وأقيس بنفسي، لأنه أدل على صدق التجربة، لقد نشأتُ في مدينتي (شقراء) في كنف من بقايا الأشياخ العوام ذوي الفطرة الصحيحة، والعقيدة الراسخة، والعمل الجاد، فمنذ بلوغ التمييز إلى مغادرة المدينة أول عام 1382هـ كنتُ أعيشُ سعادةً ولذة من ثلاث جهات: أولاهن الانشغال بطلب العلم والدراسة في المناهج المرحلية والقراءة الحرة والرواية الشفوية، وكان طلباً للعلم خالصاً لا يشوبه حب الشهرة، أو الاستعلاء على الأقران.. وثانيتهن صفاءُ النشأةِ والبيئة، فلا فلسفات تلوث العقول، ولا مغريات تهز الرصانة، وكانت مواعيد الصلاة في المسجد جماعة من لحيظات الأنس التي تأكل القلب تلقائياً دون ساعة أو منبه أو علامة.. أستبطئُ موعد الأذان، وأستعجل موعد الخروج من المسجد؛ لأن اللذة الروحية تجربة نفسية عشتها وليست من دعاوى الصوفيين، ولأن كل شيء في البيئة يعين على الطاعة.. وثالثتهن سعادة نفسية أخرى مآلها القناعة وتمام الرضى بالموجود من المأكل والملبس والمشرب والمركب والمأوى مع معاينة للألطاف الإلهية، وطيب مجالس السمر والأنس وتواليها مع أشياخٍ يأكل الطير من أيديهم.
قال أبو عبدالرحمن: ثم خرجت من مدينتي (شقراء) خروجَ البط المغرِّب المهاجر إلى بلاد الحرمل والقتاد؛ فالتحمت بشلة الصحفيين وظرفاء الأدب والفن، واستفزتني المغريات، وازدادت بين الفينة والفينة معرفتي بفلسفات وأفكار تلوث العقيدة وتكدِّر صفاء اليقين، ونسيت نفسي حيناً من الدهر، وانفصمتْ عرى اللقاء - لا المودة - بيني وبين مشايخي وأترابي في النشأة القروية، وإذا بي أعيشُ حياةً مناقضة ومباينة لحياة ما قبل الغَرارة، وكثُرتْ رعيتي وفُرضتْ عليَّ حياة لا تُريحُني.
ولو كنت أعزب: لقنعت بحصير أبي العلاء، وعنز غاندي.. وطالت السكرة، وفقدت كل شيء من نعيم القرية إلا صلابة عقيدتي وانطراحي بين يدي الله بالدعاء في أحلك لحظات الغفلة مع وخز ضمير لازمني طيلة المدة التي نسيت فيها نفسي، واستهلكت معظم العقد الثامن، فقارن الصحوة والفيأة خورٌ في العزيمة، وقلة في النشاط، وخايلتني دكاكةُ الظهر التي يذكرها جار الله الزمخشري، وغالطت نفسي بأصباغ من الحناء، ومع هذه الفيأة كدت أسترد شيئاً من نعيم القرية، ولكن يلازم هذا النعيم سهام من التباريح: منها قلة الزاد، وقصر الأمد، ووعورة الدرب بالقياس إلى أعمار أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومنها حزنٌ ناشبٌ في سويداء القلب على فراق الأحباب لا سيما الوالدين، فما أفدح ذكراهما رحمة الله عليهما، ومنها مصنفات عديدة عجزتُ عن إتمامها لفشل الوقت وكثرة الأعباء.. اللهم ارحم شيبتي وضعفي، واعف عن سالفتي، واعصمني فيما يستقبل، وإنَّ الله ليستحي أن يعذب ذا الشيبة الناشئ على عقيدة التوحيد، وإلى لقاء قريب إن شاء الله، والله المستعان.
** **
كتبه لكم/ (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -