د.سالم الكتبي
ما يحدث في لبنان بعد فشل ثماني جلسات متتالية عقدها مجلس النواب لانتخاب رئيس للجمهورية، هو نموذج لمعضلة السياسة في هذا البلد وأيضاً في عالمنا العربي. حيث دخل لبنان حالة شغور رئاسي منذ نهاية فترة ميشال عون رسمياً في نهاية أكتوبر الماضي، ولم تفلح الأحزاب والأوساط السياسية في بناء توافق حول رئيس جديد رغم عواقب ذلك على الأوضاع الأمنية والاقتصادية والسياسية.
الصراعات والانقسامات مسألة واردة في الممارسة السياسية، ولكن ما يميز الحالة اللبنانية هو التضاد الصفري بين الفرقاء وأطراف الصراع السياسي، حيث تختلط الأوراق وتتضارب المصالح والإرادات بشكل يدعو للاستغراب، لأن لبنان الدولة والشعب، لا يمتلكان رفاهية انتظار التوافقات والتسويات والوقوف على أرضية مشتركة وغير ذلك من هذه العبارات التي يرددها الجميع دون أن تجد أي صدى لها في السلوك السياسي على أرض الواقع! وما يحدث هو ملهاة سياسية بكل المقاييس، فلا أكثرية تستطيع استكمال الشكل الدستوري للدولة، ولا أقليات قادرة على التلاقي وبناء التفاهمات التي يتطلبها العمل السياسي والبرلماني.
يدرك الساسة اللبنانيون أن العالم لديه قائمة لا تنتهي من الأولويات التي تفرض نفسها على الأجندة السياسية لعواصم صنع القرار، إقليمياً ودولياً، وللأسف قد لا يكون لبنان في صدارتها، بل قد لا يكون من بينها بالأساس بسبب تفاقم الأزمة والقضايا الدولية وتداعياتها، ناهيك عن وجود حالة سأم من الخلافات الداخلية اللبنانية، وعدم وجود بدائل يمكن أن تلقى قبول جميع الأطراف، حتى أن سفير إحدى الدول الغربية في بيروت قال مؤخراً إن هناك رؤية سوداوية تجاه الوضع اللبناني، وأنه لن يكون مفاجئاً إن سقط الاهتمام بلبنان وأصبح وحيداً في مواجهة ظروفه!
بلا شك أن أزمة لبنان، الذي يعاني غياب حكومة ورئاسة، ويعاني أيضاً بسبب وجود برلمان منقسم على نفسه، ولا يستطيع بناء التوافق حول القضايا المصيرية للبلاد، ليست في وقوف الدول الصديقة والحليفة بجانبه أم لا بل هي بالأساس في هذه النخب التي تلعب دوراً أساسياً فيما آلت إليه الأمور، وهذه ليست مسألة طارئة ولا عابرة على الأجواء السياسية اللبنانية التي تختلف عن غيرها لاعتبارات عدة يطول المجال لشرحها ومناقشتها، ولكن الحاصل الآن أن الدولة والشعب اللبناني ليسا كما سبق ولا يستطيعان البقاء في ظل أوضاع كهذه، وكان يفترض من الجميع إعلاء المصالح العليا للبلاد والقفز على المصالح والولاءات ولو لفترة مرحلية عابرة، لأن من الواقعية الاعتراف بأن هناك أطرافًا داخلية كحزب الله وامتداداته السياسية والبرلمانية لا تقر فكرة الدولة الوطنية ولا تجد غضاضة في المضي وراء فكرة التبعية العابرة والمعلنة للجميع!
لا يقف لبنان وحده في قائمة الأوضاع العربية المرتبطة بالانقسامات والصراعات الداخلية ذات البعد الإقليمي والدولي، فالقائمة تمتد لتشمل دولاً أخرى مثل ليبيا واليمن، وخرج منها العراق مؤخراً بعد جهد ماراثوني طويل.
الطائفية تلعب دوراً مؤثراً في بعض هذه الأزمات العربية الداخلية، فيما تلعب الولاءات الخارجية دوراً آخر لا يقل خطورة وتأثيراً، وكلاهما عاملان مترابطان لا ينفصلان، وكارثيان لتأثيراتهما على الأمن والاستقرار في هذه الدول. والأزمة الأكبر ليست في وجود هذه الأزمات بل في كيفية الخروج منها، فلا أحد يستطيع طرح تصورات أو مقترحات قابلة للتطبيق في الحالات العربية الثلاث المأزومة، والمسألة هنا لا تتعلق بانتخاب رئيس أم لا فقط كما في الحالة اللبنانية، ولا بإجراء انتخابات من عدمه كما في الحالة الليبية، ولا بسبل إقناع جماعة «الحوثي» بالانصياع للإرادة الوطنية والدولية كما في اليمن، ولكن بكيفية بناء حالة حقيقية من الاستقرار واستعادة الهدوء واستئناف التنمية في هذه البلاد، التي أصبحت رقماً صعباً في معادلات الأمن والاستقرار الإقليمية.
المؤكد أن استمرار هذه الأزمات العربية يمثل معضلة إستراتيجية بكل المقاييس لأن هذه الأزمات تستنزف الكثير من الطاقات والموارد الدبلوماسية التي كان يجب أن تتجه للتركيز على ملفات التنمية والتعاون الإقليمي والدولي، ناهيك عن التركيز على تسوية قضايا أخرى مهمة مثل الملف السوري ومكافحة الإرهاب وغير ذلك من قضايا تستحق أن تكون في صدارة الاهتمام الإقليمي والدولي.