صبحي شبانة
... مجدداً تقود المملكة العربية السعودية دفة التحولات الإستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط والعالم، فبعد أربعة أشهر من القمم السعودية والخليجية والعربية - الأمريكية التي استضافتها في مدينة جدة شهر يوليو الماضي، ومن قبلها مثيلتها في عام 2017م، تستضيف الرياض ثلاث قمم في ثلاثة أيام، قمة سعودية - صينية، وقمة خليجية - صينية، وقمة عربية - صينية، في دلالة مباشرة على أن مركز الثقل العالمي، ومحور الارتكاز الدولي انتقلا إلى العاصمة السعودية الرياض التي تدير بحنكة قيادتها وحكمتهم المعهودة التغيرات الجيوسياسية، والتحولات الجيوستراتيجية في موازين القوى العالمية، بعد أن أصبحت المملكة لاعباً أساسياً وعنصراً رئيساً لا تستطيع أية قوى تجاهلها أو الاستغناء عنها في صناعة القرار الدولي.
تدرك القيادة السعودية الشابة أن معايير القوى والمعادلات الدولية قد تبدلت بسبب التحولات التي شهدها العالم في السنوات الثلاث الماضية بفعل انتشار فيروس كورونا المتحور، والحرب الروسية الأوكرانية التي لا يعلم أحد متى تتوقف، وعلى أي وضع سوف تنتهي، لقد أثبتت التطورات الأخيرة أن قياس القوى لا بد له من أن يشمل، جودة الحياة، والرضا المجتمعي، وارتفاع معدلات التنمية الاقتصادية، وتطور النظام الطبي، والتطبيق الكامل لأنظمة الحوكمة، ومشاركة القطاع الخاص في عجلة الاقتصاد، كل هذه تعد مؤشرات حاكمة على القدرة على إدارة النظام الدولي، أو المشاركة في إدارة دفته، بصورة تتناسب مع منظومات القيم، وغايات لأخلاق التي سنتها الشرائع السماوية، ورسمتها النواميس الكونية، وتوارثتها الأعراف الدولية، فلا يكفي أن تمتلك دولة ما قوة عسكريةً هائلةً، كي تصبح قوةً عالمية أو قطباً في النظام الدولي، بل إن ذلك يقتضي أن تكون هذه الدولة متكاملة القوة بعناصرها الحديثة، وليس بامتلاكها أحدث المجنزرات أو الأسلحة الفتَّاكة أو الأساطيل الضخمة، فما جدوى الترسانة العسكرية إذا لم تتمكَّن الدولة من مكافحة فيروس يهدِّد حياة مواطنيها ومستقبل اقتصادها؟
ومع تسارع الأحداث العالميّة خلال السنوات الماضية، وما خلّفته من أزمات أثرت في اقتصاد الدول وإمدادات الطاقة، شهدت العلاقات العربية الصينية تطوراً لافتاً على مختلف الأصعدة، تجسد في التوافق العام والتنسيق بين الجانبين حول قضايا العلاقات الدولية، بما في ذلك قضايا حقوق الإنسان والتنمية وإصلاح الأمم المتحدة والنظام الاقتصادي العالمي، في المقابل تنتهج الصين سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وتدعو إلى حل المنازعات بالطرق السلمية، وترفض التدخل الأجنبي في شؤون دول المنطقة من أجل تأمين الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، بهدف تحقيق التنمية التي تعود بالنفع على الجانبين، اقترحت عدداً من المبادرات التي تتعلّق بتحقيق الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، وحل القضية السورية، والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. في المقابل، تقف الدول العربية إلى جانب الصين في القضايا المتعلقة بمصالحها الجوهرية، بما فيها مناطق هونغ كونغ وشينغاينغ وتايوان.
وتولي الصين المنطقة العربية أهمية كبرى، نظراً إلى موقعها الإستراتيجي، وثقلها السياسي والاقتصادي، فالصين حالياً هي أكبر شريك تجاري للدول العربية، وهي أكبر مستورد للنفط الخام عالمياً، وتعتبر السعودية أكبر مصدر لواردات الصين من النفط. وقد شكلت وحدها 17.4 % من إجمالي واردات الصين من النّفط الخام في العام 2021، ويبلغ حجم التبادل التجاري بين الدول العربية والصين 330 مليار دولار أميركي عام 2021، كما بلغت استثمارات الصين في الدول العربية 213.9 مليار دولار خلال نفس العام.
وتدرك الحكومة الصينية أن للدول العربية دوراً كبيراً في إنجاح مبادرة «الحزام والطريق» الصينية التي انضمَّت إليها 20 دولة عربية، وتعمل الصين من جانبها على إنجاح مبادرتها التي ستعود بالنفع عليها وعلى دول طريق الحرير، إنَّ سياسة الصين تجاه الدول العربية واضحة، وأعلنتها في الوثيقة التي أصدرتها عام 2016، إذ إنها شكلت معادلة 1+2+3 التي تتخذ مجال الطاقة كمحور رئيسي، ومجالي البنية التحتية وتسهيل التجارة والاستثمار كجناحين، و3 مجالات ذات تقنية متقدمة وحديثة، تشمل الطاقة النووية والفضاء والأقمار الاصطناعية والطاقة الجديدة، في المقابل تدرك الدول العربية أن نجاح وديمومة العلاقات العربية الصينية رهن بتعزيز ثقافة بناء المصالح والمشتركات التاريخية التي تجمع الحضارتين العربية والصينية باعتبارهما أقدم حضارتين تعايشا وتفاهما على مر التاريخ، كما يدرك الجانبان أن موازين القوى في العالم قد تبدلت من القوة العسكرية إلى القوة الاقتصادية، وأن العرب والصين معاً يشكلان قاطرة الاقتصاد العالمي بعدما أفلت أمريكا، وتاهت أوروبا، وتورّطت روسيا. إن العرب والصين يخطان معاً طريقاً إنسانياً جديداً للبشرية وفقاً لمعايير حضارية بعدما فشلت ثقافة الكاو بوي، وأفلس مجتمع الميم.