رضا إبراهيم
من الأمور العجيبة أنه في عام 1800م كان (3) في المائة فقط من سكان الأرض يعيشون بالمناطق الحضرية، ولكن بعد مرور نحو (200) عام انفجرت تلك النسبة بشكل غير متوقع، حيث تجاوز عدد سكان الحضر عدد سكان الريف وما زال في ازدياد، والمتوقع أن يصل إلى (68) في المائة بحلول عام 2050م، ولقد ارتبط ظهور الحضرية في بدايات القرن الماضي بالأحياء مختلطة الاستخدام والمنظمات والشبكات الاجتماعية، ورغم الطفرة الصناعية الكبرى التي أوجدتها الحضرية، إلا أن ذلك قابله آثارا صحية سلبية، وبالأخص على الأدمغة البشرية.
وعلى الرغم من ميل المدن نحو امتلاك مزيد من الموارد، سواءً من المؤسسات أو الثروات أو أماكن شراء المواد الغذائية أكثر من المناطق الريفية، إلا أن الوصول إلى هذه الموارد لا يتم توزيعه بالتساوي بين سكان الحضر، ويمكن أن يؤدي عدم الوصول إلى جانب عوامل الضغط مثل الضوضاء والجريمة والتلوث إلى إجهاد سكان المدن، ما يؤثر في الصحة العقلية، وكل هذه الضغوطات لا تظهر بمحض الصدفة، لكنها تتواجد نتيجة لقوى هيكلية قوية، من أهمها التهميش ومستوى التعليم والملوثات البيئية وعدم المساواة في الدخل، وكلها عوامل تكمن وراء الطابع الاجتماعي والاقتصادي وحتى المادي للمدن، وهي بذلك تخلق أو تحُد من جميع جوانب الصحة العامة وبالأخص الصحة العقلية.
إذ إن ممارسات التهميش في إسكان بعض الجماعات، قد أدى على سبيل المثال إلى تركيز الجريمة بمناطق حضرية معينة، ما يضر بالصحة البدنية والعقلية، واعتبر التفاوت في الدخل الذي يظهر بشكل خاص بالمدن محركاً رئيسياً لمشاكل الصحة العقلية للعديد من الأسر منخفضة الدخل أو الموارد، ففي عام 2011م أظهرت دراسة جديدة قامت بها البروفيسور أندرياس ماير ليندنبرغ من جامعة «هايدلبرج» الألمانية بفحص أدمغة أكثر من (50) متطوعا سليماً عاشوا في مجموعة مواقع بالمناطق الريفية وانتقلوا إلى المدن الكبيرة، بينما كانوا يشاركون في مهام حسابية عقلية تتسم بالصعوبة.
وصُممت التجارب لجعل مجموعات المتطوعين تشعر بالقلق حيال أدائهم، وقد أظهرت النتائج التي تم نشرها في دورية (نيتشر) العلمية أن اللوزة الدماغية للمشاركين الذين يعيشون حالياً في المدن، كانت نشطة جداً خلال المواقف العصيبة، وعلى ذلك تقول ليندنبرج (نحن نعلم ما تفعله اللوزة، إنها تُعد «حساس الخطر» في الدماغ، وبالتالي فهي مرتبطة بالقلق والاكتئاب، وبمنطقة أخرى تسمى «القشرة الحزامية» كانت مفرطة النشاط في المشاركين الذين ولدوا في المدن، نحن نعلم أن القشرة الحزامية مهمة للسيطرة على المشاعر والتعامل مع الشدائد البيئية).
وحول مسح الدماغ، فقد ظهر أن أدمغة الأشخاص الذين يعيشون بالمدن تعمل بشكل مختلف عن تلك الموجودة بالمناطق الريفية، فالعلماء وجدوا أن منطقتين تشارك في تنظيم (العاطفة والقلق)، تصبح مفرطة النشاط في سكان المدن عندما يتعرضون للتوتر، وجادلوا بأن تلك الاختلافات يمكن أن تفسر ارتفاع معدلات مشاكل الصحة العقلية التي تظهر بالمناطق الحضرية، كما أظهرت الأبحاث السابقة أن الأشخاص الذين يعيشون في المدن لديهم مخاطر متزايدة بنسبة (21) في المائة لاضطرابات القلق، ونسبة (39) في المائة زيادة في خطر الإصابة باضطرابات المزاج، إضافة إلى ذلك فإن معدل الإصابة بـ (الفصام) أعلى بمرتين لدى من ولدوا وترعرعوا في المدن.
ومن بين أول من اقترح أن الحضرية تؤثر أيضاً في عمل الأدمغة البشرية، كان عالما الاجتماع «روبرت فارس وارن دنهام» وهما اللذان وثقا عام 1939م تركيزا لمرض انفصام الشخصية والاضطرابات العقلية الأخرى داخل الأحياء الفقيرة بمدينة شيكاغو الأمريكية، حيث افترضا أن الفوضى الاجتماعية الموجودة في أجزاء معينة في المدن، يمكنها أن تنتج إحساساً بالعزلة لدى بعض الأفراد وأن تؤدي إلى ضائقة نفسية، ومع مقارنة الأبحاث اللاحقة الصحة العقلية لسكان الحضر مع نظرائهم في مناطق الريف، كشف التحليل التلوثي في عام 2010م عن ظهور ارتباط المناطق الحضرية بـ(39) في المائة أكبر من مخاطر الاضطرابات المزاجية، ونحو (21) في المائة أكبر من مخاطر اضطرابات القلق، إذ إن هناك العديد من الآليات التي يمكن للمدن من خلالها التأثير في الصحة العقلية، فمن خلال إبقاء أعداد كبيرة من الناس بالقرب من بعضهم البعض، سهَّلت المدن انتشار القلق عبر سكان الحضر بكثافة، واعتبار ذلك عاملا أشبه بالعدوى، وسميت تلك الظاهرة بـ (العدوى الاجتماعية).
وعلى الرغم من أن التواجد في المدينة يُعد نوعاً من الترف، لكن وجد أن مجرد التواجد في بيئة حضرية هو أمر يضعف العمليات العقلية الأساسية، فبعد قضاء بضع دقائق في أحد شوارع المدينة المزدحمة يصبح الدماغ أقل قدرة على الاحتفاظ بالأشياء في الذاكرة، ويعاني ضعف ضبط النفس، ويقول مارك بيرمان وهو عالم النفس بجامعة ميتشيغان والمؤلف الرئيسي لدراسة جديدة تقيس العجز المعرفي الناجم عن نزهة قصيرة في المدن (العقل آلة محددة، لذلك بدأنا نفهم الطرق المختلفة التي يمكن أن تتجاوز بها المدينة هذه القيود).
وخير دليل يتضح في النقص الشديد في الطبيعة، على اعتبار أن الطبيعة أمر مفيد للدماغ بشكل فعَّال، حيث أظهرت الدراسات على سبيل المثال أن مرضى المستشفى يتعافون بسرعة أكبر عندما يرون الأشجار من نوافذهم، وأن النساء اللائي يعشن في المساكن العامة هن أكثر قدرة على التركيز عندما تكون بيوتهن مطلة على فناء مليء بالأعشاب، ما يعني أن اللمحات العابرة للطبيعة، يمكنها تحسين أداء الدماغ لأنها توفر استراحة ذهنية من الضجيج الحضري.
ومن المعلوم أن المدن ومنذ ظهور المصابيح الكهربائية في مطلع القرن العشرين، تنتج سماءً ليلية مذهلة بصرياً والتي يمكن رؤيتها من الفضاء، لذلك أصبح الناس معرضين بشكل متزايد للضوء الساطع وغير الطبيعي نسبياً في الليل، سواءً في الخارج أو داخل بيوتهم، وعلى سبيل المثال ظهر أن التلوث الضوئي الحضري الحالي يؤثر في (99) في المائة من سكان أمريكا وأوروبا، وعلى نحو (60) في المائة من بقية سكان العالم، وعلى اعتبار أن الإضاءة الكهربائية كانت مفيدة جداً لأعمال تطوير الصناعة والتكنولوجيا، حيث سمح الضوء بالعمل في أوقات الليل، ما أدى إلى التنمية الاقتصادية، ويعتبر معظم الناس أن الضوء بالليل عامل بيئي غير ضار إن لم يكن مفيداً بالحياة الحديثة، وهو على الأرجح سبب التغاضي عنه، كعامل خطر على الصحة حتى وقت قريب.
ومع ذلك وبسبب التأثيرات الدراماتيكية للضوء في نظام «الساعة البيولوجية» الذاتية وعلى النواتج النهائية مثل إفراز الهرمونات، فإن الضوء في الليل له تأثيرات كبيرة في العديد من العمليات الفسيولوجية، ومن الواضح الآن أن الضوء في الليل له عواقب اجتماعية وبيئية وسلوكية وصحية أهمها عدم قدرة الأدمغة البشرية (وظائف المخ) على التكيف للضوء في الليل وخاصة الاستجابات العاطفية، لذلك ونظراً لاحتياج الأدمغة إلى الطبيعة، يجاهد بعض العلماء حالياً إلى الانغماس في التصميم الحضري، ويبحثون بجدية عن طرق لجعل الحضرية أقل ضرراً بالأدمغة، وإجراء بعض من التعديلات الطفيفة مثل زراعة المزيد من الأشجار في وسط المدينة، أو إنشاء حدائق حضرية بها مجموعة متنوعة من النباتات، والتي يمكنها أن تقلل بشكل كبير من الآثار الجانبية السلبية للحياة الحضرية.