د.عبدالله بن موسى الطاير
الوصاية على المتلقي صاحبت نقل المعلومة منذ الأزل، فعندما كان الكتاب هو السائد، مارس المؤلف وصايته بتحديد ما يصل من أفكاره للمتلقين وما يحتفظ به لنفسه ولدوائره المقربة، وبالوصول إلى عصر تدفق المعلومات من خلال وسائل الإعلام الجماهيرية من صحافة وإذاعة وتلفزيون تطورت وظيفة حراسة البوابة وتعدد القائمون عليها، وهو ما استدعى عالم النفس الاجتماعي كيرت لوين إلى صياغة مصطلح «حارس البوابة» عام 1943م. وتمثِّل حراسة البوابة عملية اختيار المحتوى الذي يمكن أن يستهلكه جمهور معين، ومن ثم ترشيحه، والدفع به في وقت ونطاق جغرافي محددين. ومن الممارسات التي كانت سائدة إلى عهد قريب أن حارس البوابة لا يتوقف دوره عند ترشيح المحتوى وإنما يتجاوزه إلى تحديد الوسيلة التي ينقل بها إلى المتلقين سواء أكانت عبر الصحافة الورقية، أو الإذاعة أو التلفزيون.
لعبت الحكومات والشبكات الإعلامية الضخمة عن طريق المحررين والمنتجين والمراسلين والمخرجين دوراً أساسياً في اختيار المحتوى الذي يصل والذي يمنع من الوصول إلى المتلقي. وأذكر على سبيل المثال أنه بعد اجتياح القوات الأمريكية أفغانستان في أكتوبر 2001م فرض القائمون على العملية الاتصالية في الولايات المتحدة الأمريكية بقرار من مستشارة الأمن القومي الأمريكي آنذاك تعتيما على أخبار العمليات العسكرية في ذلك البلد، ولم يسمح بنشر أي مادة أو صورة لا تصل عن طريق البنتاغون. كانت صحفية من لوس أنجلس تايمز تتصل بي في واشنطن لترجمة الوصف المصاحب لبعض صور الحرب التي تنشرها شبكة الجزيرة. أخضع المتلقي الأمريكي لمصدر واحد للمعلومة هو البنتاغون، بينما نقل الإعلام الأوربي والعربي معلومات مغايرة عمَّا يصل إلى الأمريكيين. وبعد أسبوعين تقريباً تمردت قناة CNN على قيد الأمن الوطن وتبعتها بقية وسائل الإعلام.
حراسة البوابة أعقد من مجرد السماح والمنع، إنها حائط صد وترشيح عقائدي ثقافي اجتماعي يشكل قناعة القائم على الاتصال؛ فالإعلامي الأمريكي أو الغربي عموماً ينطلق من كونه في الأساس مسيحياً، أبيض، ديموقراطياً ليبرالياً. ما يتفق مع هذه التوليفة يجد اهتمامه ورعايته، وما يخالفها يكون مصيره التهميش إذا لم يكن الحجب. ولذلك نشأ في الدراسات الإعلامية مفهوم تدفق المعلومة من الشمال إلى الجنوب، ومورست قيود شديدة على التدفق في الاتجاه المعاكس.
اليوم يمكن القول تجاوزاً بموت حارس البوابة بمفهومه التقليدي، لكن ليس من الممكن تجاهل نشوء بديل انتقل من حراسة البوابة إلى مراقبتها، إذ أصبحت منصات وسائل التواصل الاجتماعي مصادر مهمة للمعلومات لكثير من الناس، وأصبح التحدي ذا علاقة بجودة المعلومة وليس بوصولها من المواطن إلى المواطن عبر شبكات التواصل الاجتماعي دون الحاجة إلى رقابة الدول والمحررين والمراسلين والمخرجين، فقد امتلك القائم بالاتصال (الفرد) أركان العملية الاتصالية. ليس كل هذا خيراً، فقد انتشرت الشائعات، والتحريض والأخبار الموجهة التي تنتجها دول للترويج لمصالحها السياسية أو الإضرار بمنافسيها وأعدائها.
اضطلعت الخوارزميات بالدور الرئيس في مراقبة المحتوى وحجبه إذا لزم الأمر ومعاقبة القائمين بالاتصال عن طريق منعهم من استخدام منصات التواصل الاجتماعي بدواعي ترويجهم لخطابات الكراهية أو العنصرية أو التعدي على حقوق الإنسان أو امتهان الأطفال. وبدلاً من الحكومات وقادة الرأي الذين كانوا يمارسون حراسة البوابة تدخلت التقنية ومهندسوها، ولعب الاقتصاد الذي يبحث عن كم المستهلكين لتمرير إعلانه التجاري دوراً مهماً في تعظيم التفاعل عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
النقلة النوعية التي أحدثتها شبكات التواصل الاجتماعي تمثَّلت في كسرها لمصدات تدفق المعلومات وحررت اتجاه هذه التدفق، وأصبح بإمكان العالم أن يتواصل بطريقة سلسلة وأن يتقارب المواطنون عبر الحدود من خلال تبادل المعلومات دون تدخل قوة أكبر في نوع المحتوى أو وقت ومكان وصوله. بمعنى لم يعد ممكناً فرز الأخبار والمعلومات بناءً على قناعات المؤسسات القائمة على الاتصال، وإنما تمكن المواطن القائم بالاتصال من تبادل معلوماته مباشرة مع غيره، مما كسر مثالية المجتمعات الليبرو-ديموقراطية، وخفَّف من حدة شيطنة المختلف. فقد تعرفت المجتمعات الغربية على مجتمعات ما وراء البحار ووجدتها على نحو يختلف من تلك الطريقة البشعة التي كانت تقدّم بها للمتلقي الغربي عن طريق الإعلام الجماهيري المتحيز لقناعاته.
خطورة شبكات التواصل الاجتماعي، رغم ما قدمته لحرية تبادل المعلومات من خدمات، تكمن في أنها ملكية خاصة تدير العقل والوعي وتتحكم فيه بناء على مصالح قد تبدو اقتصادية بحتة، ولكنها في الوقع تعمل بتراخيص دول المقر التي تتحكم في بنيتها التحتية، وقد يؤدي الاعتماد عليها على حساب شبكات الإعلام الجماهيري الوطنية التقليدية إلى عزل الحكومات الوطنية عن مواطنيها فيما لو تقرَّر حجب هذه المنصات عن دولة ما، أو إلى استخدامها ميادين افتراضية لتوجيه الرأي العام ضد الأنظمة القائمة.