صديقي القارئ، حينما تحدثك نفسك لفعل الخير، وإسداء المعروف، إياك وأن تنظر إلى من تريد فعل الخير معه، نَظرة الباحث المستقصي، وأن تقف منه وقفة المُرتاب الحائر، فتقول لنفسك: هل هو أهل للمعروف والإحسان؟ أهو يستحق أم لا يستحق؟.
إياك ثم إياك، وكن سمحاً كريماً أريحياً- وأنت كذلك- فإني لا أحب لك أن تتأثر بقول فيلسوف الجاهلية، زهيرِ بن أبى سُلْمى، في معلقته الشهيرة:
ومنْ يجعلِ المعروفَ في غيرِ أهلِه
يعُدْ حمدُه ذماً عليه ويندمِ
هذا البيت الذي جاء معناه أيضاً في فلسفة المتنبي بقوله:
ووضعُ النَّدى في موضع السيف بالعُلى
مُضِرٌّ كوضعِ السيف في موضع الندى
إني ليسرني أن أخالف هذين الشاعرين الكبيرين في الجاهلية والإسلام، وأن أعلن ضعف فلسفتهما، بل فساد رأيهما فيما قالاه، وأنصح لي ولك بالاستماع إلى قول الحكيم الذي قال:
ازرعْ جميلاً ولو في غير موضعِه
فلن يضيعَ جميلٌ أينما زُرعا
إن الجميلَ وإن طال الزمانُ به
فليس يحصدُه إلا الذي زَرَعا
نعم نعم، ازرع جميلاً، واصنع معروفاً، ولو في غير موضعه، فأنت وحدك من ستجني ما زرعت يداك، وسينفعك حصاده يوماً ما، وتعليل ذلك يسير هيّن، وهو أننا في الحقيقة لا نتعامل مع الناس، وإنما نتعامل مع رب الناس، الذي أمرنا بفعل الخير، وبذل الإحسان، إذ لو كنا نتعامل مع الناس، ما أسدينا ولا فعلنا معروفاً ولا خيراً قط، أوليس ابن آدم كما قيل طُبع على اللؤم؟ يؤكِّد هذا غير آيةٍ في كتاب الله، منها قوله تعالى:(إن الإنسان لكفور مبين)، فمن شأنه أنه إذا أخذ لا يشكر ولا يحمَد، وإن شكر فإن شكره لا يَخلص ولا يطول، بل سرعان ما ينسى ويجحد، وذلك لأن ذاكرة الإنسان في الخير ضعيفة، على حين ذاكرتُه في الشر قوية، فتراه يكاد ينسى من أحسن إليه، ولا يكاد ينسى من أساء إليه. ومن هنا كان لزاماً على الإنسان مجاهدة نفسه، كفريضة من إحدى الفرائض الإسلامية الواجبة، لعله بجهاد نفسه يرتقي ويسمو بطبيعته البشرية.
ولكن عليك أن تذكر أنك أنت أهلٌ لفعل الإحسان والمعروف، إن لم يكن غيرك أهل له، وجدير به، وعليك أيضاً، أن تحمد الله أن جعلك من أهل الخير، وممن يصدر عنهم، ويرتجى منهم، لتستعين بكل ذلك على صنع الجميل، وأنت على كل حال ينبغي لك ألا تطمع في الجزاء والثواب إلا من عند الله عز شأنه، وكذلك لا تطمع حتى في سماع عبارات الشكر والثناء، ممن تفعل من أجلهم الخير، ولن يكون لك عوناً على ذلك إلا يقينك أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولن يكون لك عزاء إلا تذكر قول الله تعالى:(وقليل من عبادي الشكور).
المقصود من قول الشاعر: (في غير موضعه)، أي الموضع الذي لا تنتظر منه مكافأةً ولا فائدة، ولا تترقب منه عائداً ولا مردوداً يعود عليك بالنفع، وذلك لما أسلفنا من أننا نتعامل مع الله، ونعمل من أجل وجهه جل شأنه، ولولاه ما فعلنا خيراً، ولا أسدينا عُرفاً.
ولكني أحب أن أشير إلى نقطة مهمة ههنا، وهي أنه علينا ألا نسمح لأحد بأن يستغل جانب الخير والإيمان في نفوسنا، ممن قد أفسد طباعهم اللؤم، وران على قلوبهم الجهل، فإن ذلك من شأنه أن يجعلنا ضعفاء، ويوقعنا في الهم والعجز، ولهذا الأمر خطورته، فقد يقتل نوازع الخير في قلوب الأبرار الطيبين، ويغير من السلوك الحميد في شخصية الإنسان، والقاعدة التي يجب أن يسير عليها الإنسان في فعل الخير، هي أن المعروف لمن يحتاج إلى المعروف.
وإن كان هناك ناس يرضيهم أقل عطاء، ويعظم في عيونهم، ولا ينسونه أبداً، فثمة آخرون خلاف ذلك، لا يرضون عنك ولو بذلت لهم كلّ ما ملكت يدك، وأفنيت في سبيلهم نفسك، وليسوا يذكرون المعروف، لأنهم غير سويين خلقياً، يعانون عقداً نفسية تجاه الآخرين، من أجل ذلك نحن لسنا مطالبين بإرضاء الناس عنا، وقد قيل في الحكمة المشهورة: رضا الناس غاية لا تدرك. ولكننا مطالبون بالتماس رضا الله سبحانه، وهو العليم بنا، الذي خلقنا لغاية وألزمنا إدراكها، ومنحنا من نعمه، ما يؤهلنا لبلوغ ما يريده منا، وما يحبه لنا من فعل الخير، والذي يجازي، كل امرئ على حسب نيته وعمله، وأعظمَ الجزاء، للسرائر النقية، والقلوب السليمة.
ولكن لا بد لي هنا- لتطمَئن وأطمئن- من أن أذكّر نفسي وإياك ببيت الشاعر الحطيئة، البيت الذي أعشقه عشقاً، وأُعجب به إعجاباً، وهو قوله:
منْ يفُعلِ الخيرَ لا يَعْدمْ جوازيَه
لا يذهبُ العرفُ بين اللهِ والناسِ
وأختم مقالتي بهذين البيتين، علّنا ننتفع منهما، ونعمل بهما.
اصنعْ جميلاً ما استطعت ولا تكنْ
ممن يميّز مؤمناً عن جاحدِ
واحسِبْ جميعَ الناس شخصاً واحداً
ثم انعطفْ حباً لذاك الواحد