محمد سليمان العنقري
بطولة كأس العالم لكرة القدم هي التظاهرة الأهم عالمياً ليس في الرياضة فقط بل في كل الفعاليات الترفيهية والثقافية والفنية على الإطلاق، ففي فترة إقامتها تتراجع كل الأخبار واهتمامات الناس إلى درجة ثانية أو ثالثة ويتصدر المشهد أحداث البطولة وما يصاحبها من فعاليات، ويصبح أغلب الجمهور عالمياً محللاً كروياً ويضعون ملاحظاتهم وانتقاداتهم لأداء المنتخبات المشاركة، فالخبر الرئيس في الإعلام هو نتائج المباريات ومفاجأتها، فالبطولة تعد ميزة بالغة الأهمية للدولة المستضيفة، فهي تفحص بنيتها التحتية ومستوى تطور الخدمات فيها مما يساعدها على توجيه إنفاقها لتطوير الخدمات والبنية التحتية، وهذا ما يدوم لما بعد البطولة، أما المنشآت المتعلقة بالبطولة فبقاؤها مرهون بحسب الحاجة لها إضافة إلى أن متابعة المليارات من البشر لأحداث البطولة كفيل بالتعريف بالدولة التي تستضيف الحدث، فهي من أدوات القوة الناعمة بشرط أن يكون هناك أهداف لما بعد ذلك من جعل البلد وجهة سياحية أو استثمارية لما تتميز به من عوامل جاذبة للاستثمار.
وفي هذه البطولة كان لمنتخبنا الوطني مشاركة مهمة من حيث تأكيد أن المملكة هي من أقوى المنتخبات في آسيا، وأن مرحلة الترشح للبطولة لم تعد هي الهدف الذي كنا نبحث عنه سابقاً بل الانتقال للتفكير في المنافسة للتأهل لأدوار متقدمة بالبطولة، ورغم صعوبة المجموعة التي وقعنا فيها وبعض التوقعات بأن نمنى ليس بخسارة في كافة المباريات بل بنتائج ثقيلة لكننا استطعنا هزيمة أحد أقوى المنتخبات العالمية ومرشح بارز لنيل اللقب وهو منتخب الأرجنتين، وهو ما جعل المنتخبات الآسيوية والإفريقية ترى بأنها يمكن أن تحقق نتيجة مشابهة مع منتخبات التصنيف الأول عالمياً، وهو ما ذكره قائد منتخب اليابان بعد أن فازوا على ألمانيا بأن لفوز المنتخب السعودي تأثيرًا جعلنا ننظر لإمكانية تحقيق ذات النتيجة، وهو ما تحقق بل وتكرر مع تونس التي هزمت بطل العالم السابق فرنسا وأيضًا كوريا عندما هزمت البرتغال إضافة للكاميرون التي فازت على أقوى منتخب بالعالم البرازيل. ورغم خروجنا من الدور الأول لكن هذه المشاركة لها أهمية كبيرة كروياً، إذ إنها تعد اختباراً وقياساً لما تحقق من تطوير بالدوري المحلي لرفع مستوى المنافسة فيه، فهي فرصة لمعرفة مدى انتشار اللعبة لاكتشاف المواهب وزيادة الخيارات أمام المدربين باختيار اللاعبين المؤهلين لتمثيل منتخباتنا بكل الفئات العمرية، فنحن ما زلنا في بدابة مرحلة جديدة من عمر الكرة السعودية تختلف عن سابقاتها من مراحل تحققت بها إنجازات تاريخية، فما زلنا بحاجة لزيادة عدد ممارسي كرة القدم، فقد لا يتجاوز المسجلون باتحاد الكرة 30 إلى 40 ألف لاعب أو أكثر قليلاً، وهي أعداد محدودة قياسًا بعدد السكان، ففي العالم يوحد نحو 50 مليون لاعب مسجل بكل اتحادات الكرة بالدول أعضاء الفيفا، وفي ألمانيا نحو 7 ملايين لاعب مسجل، وأعداد مقاربة لهذا الرقم في البرازيل، بينما في إسبانيا نحو مليون لاعب، فأهمية هذه الأرقام تدل على انتشار اللعبة تحت أطر تنظيمية، أي أن هؤلاء مسجلون من خلال انتمائهم لأندية مرخصة، وهو ما يتيح اكتشاف المواهب وزيادة التنافسية بين اللاعبين ليحصلوا على فرصة الانضمام لأندية كبرى، وكذلك إمكانية أن يكونوا ضمن المنتخبات الوطنية.
لكن تجربة تطوير الدوري المحلي رغم أنها رفعت من مستواه ليكون من بين أقوى الدوريات الشرق أوسطية بزيادة عدد اللاعبين الأجانب، لكن أيضاً لابد من النظر لهذه التعديلات هل خدمت أو أضرت اللاعب المحلي، ففي كأس العالم واجه منتخبنا إشكالية بالإصابات من المباراة الأولى ولم تكن لدى المدرب تلك الخيارات الواسعة بل حتى من ذكر من المحللين أنه يوجد خيارات لم يلتفت لها المدرب عند اختياره لمن يمثل المتتخب، اختلف معها محللون آخرون بأن هناك مشكلة حقيقية ببعض المراكز، ففعلياً لا يوجد مهاجمون صريحون محليون، وهي نقطة الضعف التي ظهرت في منتخبنا تحديداً في مباراة بولندا، كنا نصنع الفرص لكن لا يوجد مهاجم ينهيها، فالمهاجمون الرئيسيون في الأندية أجانب ولذلك لم نسمع عن أي اسم مميز من لاعبين محليين بهذا المركز مما يعني بالضرورة إعادة تقييم شاملة للكرة السعودية والبناء على ما تحقق من تطوير ظهر في هذه البطولة وفي التصفيات المؤهلة لها والعمل على معالجة ما تحتاجه الكرة لدينا مستقبلاً، ولعل أهم توجهين هو خصخصة الأندية، والأهم هو دعم الاحتراف الخارجي للاعب السعودي فما حققته منتخبات السنغال والمغرب وحتى من آسيا وبعض منتخبات أوروبا ذات التصنيف الأقل هو بسبب اعتمادها على لاعبين محترفين بأقوى الدوريات العالمية، كالإنجليزي والإسباني والإيطالي والفرنسي والألماني، ولو كان اعتمادهم بالمطلق على لاعبي أنديتهم لما حققوا أي نتيجة تذكر، فالاحتراف الخارجي يصقل اللاعب ويعتاد على مواجهة أفضل اللاعبين العالميين وتكسر الحواجز والفوارق بينه وبينهم، كما أنه سيعتاد أيضاً على التعامل مع المباريات المهمة وما يتخللها من ظروف وسيتلقى التدريب على يد نخبة المدربين العالميين. أما النتائج لكل ما حدث من تطور بالكرة السعودية وما سيضاف لها مستقبلاً فإن حصد نتائجه سيأخذ سنوات لأنها مرحلة زمنية لابد من معايشتها ومن الصعب حرق مراحل بعض الجوانب، كبناء عقلية الاحتراف لدى اللاعب والأندية كذلك إضافة للتأهيل والبناء البدني والفني، وكل ذلك يحتاج إلى ضخ استثماري واسع وهو المرحلة الأهم والتي تنطلق عملياً عند البدء بخصخصة الأندية.
مشاركة مميزة وأفضل من التوقعات لمنتخبنا عكست تأثير تطور الكرة لدينا بمرحلته الحالية وكشفت أيضاً عن بواطن الضعف وما نحتاجه مستقبلاً لكن كان أكبر إنجاز هو الصورة الرائعة التي قدمها الجمهور السعودي الذي يعد نجم البطولة بحيويته وبصماته، فكثير من العبارات التي تردد الآن من جماهير عربية وأجنبية تحضر البطولة أطلقها الجمهور السعودي بل وتناقلتها وسائل الإعلام العالمية بالصحافة والقنوات الفضائية فكان خير سفير وعرف العالم بطبيعة مجتمعنا وحيويته وتقدمه، فالمحصلة أن هذه البطولة حققت لنا مكاسب كبيرة يجب النظر لها والبناء عليها.