د. محمد بن عويض الفايدي
جوهر القرار يتمثَّل في الرشد والقدرة على تحقيق الأهداف وبلوغ الغايات بفكر تحليلي إبداعي يسهم في بلورة الفرص والتحديات إلى خيارات تستجيب للسياسات والمواقف وتلبي الآمال والتطلعات. فهل عبارة «مشغول جدًا» منطلق يمتطيه القادة للتنصّل من مسؤوليات القيادة وكسب الأهمية؟
رقي المجتمعات وتطورها مرهون بنوعية القيادات التي تقودها وتوجه دفة مؤسساتها الحكومية والخاصة، ومدى اعتمادها على المبادئ السامية والقيم النبيلة، والمهارات الإبداعية في القيادة، فالمبادئ كالعدالة والشفافية والحرية والتعاون والتكافل والنزاهة والولاء والانتماء والإيثار والمصلحة الوطنيَّة والعامَّة، ما هي إلا مرتكزات أسبق في وجودها، وأمضى في استمراريتها والالتزام بها من عدمه لا يؤثر في مكوناتها وديمومتها، فبالتالي تظل المبادئ خارج الإنسان التزم بها أو لم يلتزم، أما القيم فتنبع من داخل الإنسان وبمقدار تناسق القيم مع المبادئ تتشكل الخصائص السوية في النفس البشرية وتبرز السمات الإيجابية التي تُعد أبرز مرتكزات التأثير في سلوك الناس وتوجيه طاقاتهم وحفزهم نحو ما يخدم مصالحهم ويلبي تطلعاتهم ويحقق آمالهم وأهدافهم، والذي بدوره يؤسس لبروز القادة الأكثر تأثيرًا، ويؤصِّل لنواة قيادة فعَّالة.
القيادة علم وفن ومهارة وسمات قيادية فطرية يُكتسب جانب منها بالتعلّم وتُنمى بالتدريب وجوهرها سمات مورثة تُشكل الفن والمهارة الحسية والمعنوية التي تُميز القائد عن غيره في الممارسة والتوجيه والاستشعار والاستشراف ومواجهة التحديات المفاجئة باستيعابها وبلورتها ضمن نموذج معالجة آنية تُعظم النجاحات وتخفض الإخفاقات.
قدرة القائد على ضبط إيقاع مسار القرارات الحرجة يُحددها درجة رشد القرار وانضباط التوجيه وضبط اللسان الزلات في ظل اتساع دور وسائل الإعلام التقليدي والإعلام المجتمعي الجديد الذي أصبح تأثيره جزءاً من القرار المتخذ على مستوى منظمات الإدارة العامة وإدارة الأعمال والنسق الاجتماعي العام.
مجال القيادة الزماني والمكاني له ضوابط وشروط وظروف يقف عند حدودها القائد فالموقع الملائم محل مهارة وتقدير القائد، والحديث المناسب ضمن قدرات واستعدادات القائد، والزمان متغير لتوقيت القرار وحسن اختيار الأعوان وتقييم المواقف والحكم على الدعوات بالقبول أو الرفض.
القيادة الفعَّالة سلوك جريء حذر تُمارس ما بين التسلّط والتسامح والديمقراطية والدكتاتورية فبمقدار الموازنة بين المنطلقين تتشكَّل الشخصية الفذة للقائد الفعَّال الذي يزن القرار وفي الوقت نفسه يمتص الصدمات ويواجه التحديات ويوظف الفرص ويتفاعل مع الأزمات والتحديات والمخاطر ويتخطاها في أثناء معالجتها ليستفيد من معطياتها في صناعة القرار الرشيد.
صناعة القرار المناسب واقترابه من الرشد يعتمد اعتمادًا كليًا على إعمال التفكير المتعمق في التحليل، ودقة وحداثة بيانات ومعلومات مرجعيته، وكفاءة التقنية الداخلة في إعداده، ومهارة الكادر البشري الذي يؤسس له، ومحصلة ذلك كله حاضنة بحثية - مراكز تفكير- بأدوات عصرية تواكب التطورات وتستقطب المتميزين من الباحثين والخبراء ذوي التجارب والمواهب لصناعة القرار تمهيدًا لاتخاذه في الأوضاع العادية وعند الأزمات والكوارث.
يُعد توفير القادة الأكفاء، وتحسين بيئة القيادة محور نجاح القائد في تخطي الأزمات إما بمكاسب أو بخفض خسائرها، أو تحييدها ومعالجتها في مهدها بالاستعداد والتهيؤ والجاهزية وحشد الإمكانات البشرية والمادية والتقنية والتأهيل والتدريب والمواكبة بالخطط والتخطيط والتطوير المستمر كل ذلك حجر الزاوية في تخطي الأزمات فالأزمة تصنع النجاح لمن يحسن استثمارها.
أهم عناصر القيادة الشجاعة الصائبة المبنية على معرفة قدرات الذات وخصائص الفعل ففي الأعم الأغلب لا يخضع الأتباع للقائد الجبان الذي لا يملك الثقة بالنفس وأن حصل لبعض الوقت فلن يستمر. كما أن التحكم في النفس بالحلم والصبر والأناة من أبرز القدرات التي تمكن القائد من التحكم في الآخرين فمن لا يضبط نفسه لا يمكنه ضبط إيقاع سلوك الآخرين. وجوهر القيادة يكمن في نيل احترام وطاعة وولاء الأتباع وكل ذلك مرهون بالإحساس الحقيقي بالعدل والنزاهة والشفافية، وقوام نجاح القائد يظهر بالثبات في اتخاذ القرارات فمن ثقته بنفسه ضعيفة غالبًا ما يتردد في اتخاذ القرار مما يؤدي إلى نفور الأتباع وتجاهلهم للقائد.
يلعب التعاطف والتفهم من القائد دورًا فاعلاً في نفوس أتباعه خاصة إذا ما عمل على فهمهم وتفهم معاناتهم ومشكلاتهم وحرص على معالجتها وحلها وبادر في مساعدتهم لتجاوزها، كلما أدى ذلك إلى رفع روحهم المعنوية وكفاءتهم الإنتاجية. ولعل تعود القائد على فعل أكثر مما يتوقع منه الآخرين يضفي عليه المهابة والموثوقية ويضاعف من العطاء ويرفع مستوى الأداء. كما أن دقة التخطيط وتطبيق الخطط تُمكن القائد من توجيه دفة القيادة تجاه الهدف مباشرة بأقل جهد ووقت وتكلفة، ودون الارتطام بصخور جليد مقاومة القرارات التي تحد من فاعلية القيادة ونجاح القائد.
مؤكد أن شخصية القائد المتزنة والممتعة تجعله أهلاً للزعامة والريادة فلا يمكن لأي شخص مهمِل ومُهمَل أن يكون قائدًا حقيقيًا فالزعامة الحقيقية تدعو للاحترام فلا يمكن للأتباع احترام قائد ذي شخصية غير ممتعة ومتزنة. والقائد الحقيقي من يملك القدرة على التحكم في التفاصيل بحيث لا يهمل أدق التفاصيل. ولا بد أن يكون لديه الاستعداد لتحمّل كامل المسؤولية عن أخطاء وهفوات تابعيه إذا ما ارتكب أحد منهم خطأ وأبان عدم كفاءته فعلى القائد عدم التواري والاعتراف بفشله الشخصي.
مبدأ التعاون من أهم أسس نجاح القيادة فالقائد الفعَّال هو الذي يدرك أهمية التكاتف ويطبق مبدأ المجهود الجماعي ويزرع هذه الروح في أتباعه فمصدر الزعامة القوة والقوة تقتضي التعاون.
النموذج القيادي الفعَّال ينطلق من مسلمة أن فهم ما يجب فعله يساوي تمامًا فهم ما يجب الامتناع عن فعله فمقدار هذه المعرفة والالتزام بمعطياتها تتحقق فاعلية القيادة وتبرز كفاءة القائد «ففاقد الشيء لا يعطيه». فأسباب الفشل الرئيسة ودواعي الإخفاق القيادي تندرج ضمن دائرة صفات الانهزامية والتهرب من تقديم خدمة متواضعة يمكن أن يقوم بها الأتباع فالزعماء الحقيقيون مستعدون لإنجاز أي نوع من المهام، التي يمكن أن يقوم بها الآخرون، حين تقتضي المواقف. «سيد القوم خادمهم». والأنانية سمة تنافي شيم القيادة فالذي يعزو انجازات اتباعه لنفسه ولا يعز الفضل لأهله لا يمكن أن يكون قائد مطاع. ولعل القائد الكفء لا يٌمجده اللقب ولا ترفعه الألقاب، والذي يحرص على الألقاب والشكليات والمظاهر لا ينال احترام أتباعه. وخوف القائد من بروز احد الأتباع لمنافسته على القيادة يُخشى عليه من تحقق تلك المخاوف فالقائد الفعَّال يُمكن أتباعه من الإنابة عنه بحسب رغبته عندما تقتضي المصلحة وتتطلب المواقف.
سوء الفهم والتردي القيادي في عدم الموائمة بين الجهد والأجر فالجهد على قدر الأجر فلا يؤجر الناس من أجل ما يعرفون ولكن من أجل ما يفعلون بمعرفتهم.
«مشغول جدًا» عبارة تتكرر كثيرًا في المحيط القيادي وهي في حد ذاتها ساحقة للقيادة مهلكة للقائد. لذا فل يحذر القادة من إهمال التفاصيل فالفشل والنجاح القيادي مرهون بمقدار التعامل مع التفاصيل فالقيادة التي تتجاهل تفاصيل المواقف والأحداث والمشاهد ولا تعمل على تنظيمها والتحكم فيها فهذا منتهى الفشل والسقوط ف «مشغول جدًا» يجب أن لا يُبرر تُنصل القائد من القيام بفعل ما ينبغي عليه فعله بصفته قائد مهما كانت الظروف والأوضاع.
ضيق الأفق والنظرة القاصرة وضعف الخيال تحد من قدرات القائد على الإبداع وتعيق قدراته على اتخاذ القرار الصائب في الوقت المناسب وبالإمكانات المناسبة، وبدون الخيال لا يستطيع القائد معالجة القضايا الطارئة ويتمكن من ابتكار الخطط للمسار الحرج أثناء الأزمات والكوارث وفي الحالات الطارئة التي تتطلب مساحة أوسع من النضج القيادي والممارسات القيادية الرشيدة التي تضمن منع الانزلاقات القيادية الخطيرة في القرارات المصيرية، وكذلك ضمان رضا وسلامة الأتباع وتحقيق الأهداف بدرجة عالية من الكفاءة والفعالية.
اتباع الشهوات والاستغراق فيها يحرف القيادة عن مسارها الصحيح ويهوي بها في قاع سحيق ووحل منتن يورث الفساد الإداري والانحطاط الأخلاقي والتردي السلوكي، والانحراف الإداري الذي يحول دون تحقيق الأهداف ويحرفها عن وجهتها، والإسراف في الشهوات يُشيع البغضاء ويجعل الأتباع لا يحترموا قائد منساق خلف هواه ومسرفًا في إتباع شهواته. والإسراف بكل أشكاله وأنواعه يُحطم المقاومة والنشاط ولا يسمح بالمبادأة والمبادرة والابتكار التي هي محور نجاح القادة.
عدم الوفاء دليل على الدناءة والخسة والنذالة وسوء الخلق ومصدر الجور على الآخرين وبخس حقوقهم وتخوينهم فغير الوافي لا يمكن أن يطاع ويحظى برضا الأتباع، فالقائد الذي يخون من يثق به لا يمكنه أن يصمد في القيادة، وعدم الوفاء يجلب الاحتقار، كما أنه أبرز أسباب الفشل في كل ميادين الحياة.
ممارسة التسلّط والإفراط في استغلال النفوذ وزرع الخوف في قلوب الأتباع يورث الكراهية ويقلب رمزية القائد العادل المتفهم والخبير بشؤون عمله إلى دكتاتور محل مقت ونبذ ونفور من الأتباع خاصة والناس عامة.
القادة الأكفاء عليهم فهم ودراسة هذه الجوانب بعناية واستيعابها بقوة لتجنب عوامل الفشل وهفوت السقوط فشغل المناصب القيادية مرهون بالتفاعل بين القائد والخطط والأتباع والبيئة الداخلية والخارجية والتصورات المستقبلية والجهود الموحدة لحل المشكلات وتفادي المعوقات، وتطوير وتحفيز الأتباع والإيمان بأهمية العلاقات الإنسانية، والدراية بالقوانين والنظم، واكتشاف الأخطاء ومعالجتها، وتقبل النقد البناء، والثقة بالنفس وتجنب الاندفاع والتهور وتحسين البيئة الداخلية، والإبقاء على رمزية القدوة الحسنة في نفوس الاتباع، والحلم بسعة الصدر والتصدي للمواقف الحرجة بإيمان القادر على حلها، والعدالة في المعاملة والابتعاد عن الأنانية والتحيز، واتخاذ القرارات المتزنة أثناء الحالات الطارئة وفي المواقف الحرجة.
قياس واقع القيادة وفرص توفير القادة تحديًا مرحليًا مرهون بحسن الاختيار والإعداد والتهيئة والتدريب للقادة، والذي بدوره يدعو إلى الإسراع في إيجاد أكاديميات ومراكز متخصصة لإعداد القادة، والتوسع في الاعتماد على مراكز التفكير ودعم القرار لتحسين مهارات القادة، ونشر ثقافة النضج القيادي الذي يُبقي على رمزية القائد القدوة الذي يلتزم المبادئ السامية وينتهج القيم النبيلة لإصدار توجيهات سديدة واتخاذ قرارات رشيدة تحفظ مهابة القيادة التي تتجاذبها التقلبات وتعصف بها التحديات.
** **
خبير الفكر الإستراتيجي - رئيس مكتب المعرفة العربية للدراسات