رقية سليمان الهويريني
قبل أكثر من ثلاثين سنة تقدم شاب لأسرتنا خاطباً أختي الحبيبة مريم؛ أنيق المظهر، جميل المحيا، كريم السجايا، تعلو وجهه ابتسامة أخاذة؛ تكاد لا تفارق تلك الابتسامة مخيلتي’ وتم الترحيب به فهو معروف لدينا، ومن أقارب والدتنا.
وكان نعم الرجل الأمين عليها، الرائف بها حيث وقف بجانبها مسانداً ودافعاً ومؤازراً لها إلى أن أكملت دراستها الجامعية؛ وحتى بعد عملها في أماكن متعددة، وأثناء حملها ومخاضها وما رافق ذلك من صعوبات وعراقيل.
ولا أذكر قط عودة ابنتنا لمنزلنا باكية من قسوته أو شاكية من حدته, بل كانت زيارتها لنا مصدر فرح وسرور وحبور.
وكان نعم الأب لأبنائه تحملاً للمسؤولية وتعهداً بالرعاية والتربية لهم، تلك التربية التي يغلبها اللطف قبل الحزم، والرفق في التوجيه، محققاً لمتطلباتهم الكمالية بجوار الأساسية, فنتج عنها شخصيات متزنة ذات عزة وأنفة وترفع عن السفاسف. وبات من غير المستغرب أن تميّز سمات أبناء (علي ومريم) عن جميع أقرانهم ومن هم في أعمارهم.
ولم أكن لأذكر ذلك لولا رحيل الرجل الفاضل الكريم الغالي علي النويصر لجوار ربه، راضياً مرضياً إثر سكتة قلبية وهو بين يدي أختي الحبيبة التي استبسلت بإسعافه وهو ينازع سكرات الموت، ولكن؛ كان قضاء الله نافذاً, وإرادته غالبة في خضم الموقف المروع.
لم تكن تتخيل حبيبتي أن زوجها الذي أدى صلاة الفجر في المسجد وعاد وهو بكامل حيويته ونشاطه أن يفارقها في لحظات مرعبة دون توديع.
لم يودعنا أبو أيمن كعادته دوماًً وهو يطلب منا الانتظار والتريث بمغادرة منزله العامر بالحب والوئام والدعة؛ وليس بالمفروشات والأثاث والأمتعة فقط.
رحل علي النويصر بصمت مهيب، وحضور وقور جعلنا نتفجر حزناً عليه بعد بكاء مرير ولوعة حرى، مع يقيننا أنه لن يعود مهما هطلت الدموع، وطال الحزن وزاد الحنين وتكالبت الذكريات.
ودعتُهُ وأسرتي وشقيقي وشقيقاتي مع أسرته الصغيرة المكلومة وأشقائه المجروحين قبل الصلاة عليه، وكان وضيء الوجه منيراً مبتسماً، تلك الابتسامة ذاتها حين جاء خاطباً، وهي الابتسامة نفسها حين كان يستقبلني في منزله العامر هامساً لي بأنه يفرح بزيارتي أكثر من فرح شقيقتي (زوجته).
ولِم لا يبتسم في نعشه وهو متجه للقاء ربه؟ ولمَ لا يضيء وجهه وهو مقبل على رب كريم مرحباً بقدومه، وكأن من سبقوه من الصالحين الأبرار يستبشرون بمقدمه ويتباشرون بوصوله يؤنس وحشتهم ويخبرهم عن أهليهم ويطمئنهم عليهم وهو خير من يبلّغهم شوقنا لهم وحنيننا إليهم.
ولِمَ لا يبتسم وهو يعلم يقيناً أن زوجته العظيمة مريم ستمضي دعوته السابقة لاجتماع عائلة (النويصر) في منزله كما كان مقرراً لها بنفس اليوم والتاريخ؟ وإصرارها على إتمام الدعوة حتى بعد وفاته التي لم يمضِ عليها شهر برغم حزنها وتجرعها مرارة الفراق, وقد فعلت أم أيمن بمشاركة أولادها ليبقى بيته عامراً بحسه مفتوحاً (لجماعته) كالعادة، وهو رصيد يضاف لهما حين بنيا أسرتهما، وعزمه هو أن تكون زوجته شريكة له فخوراً بها دوماً.
أبكيك يا أخي مع أسرتك المصدومة برحيلك بألم ومرارة تتحلب في أفواهنا فتغير طعم الأكل والشرب، وغمامة حزن تُطبق علينا فتضيق صدورنا، ولا يخففها إلا ذكر الله تعالى ثم استرجاع ذكرياتك الطيبة وبصماتك الكريمة مع كل شخص التقى بك فأحبك لحسن ذاتك ودماثة خلقك ونقاء سريرتك وطهارة قلبك.
اللهم ارحمه، واجعل الفردوس مقره بين جنات ونهر، واجعل لباسه فيها السندس والديباج، وطعامه فيها فواكه، وشرابه العسل المصفى كما كان يختار لأسرته أجمل اللبس وينتقي لهم أحسن الأثاث، ويجتبي لهم ألذ الأطعمة وأشهى الأشربة.
أخي العزيز؛ أعزي أسرتك التي جعلتها (أنت) أسرتي وبيتي وأبنائي، فلا أكاد أفرقهم عمن أنجبتهم، وأعزي إخوتك الذين تحولوا إخوةً لي بحسن سلوكك ورفيع خلقك.
وأعزي نفسي بك وأتقبل عزاءك كل حين، من البشر والطيور والشجر وجميع المخلوقات, فتلك الشمس بعدك ظهرت حزينة، كئيبة.
حتماً، هي ليست شمساً يا أخي!!