حمّاد بن حامد السالمي
«يبدو أننا نواجه قضية جديدة تتعلق بما نملك من مكنوز أثري كبير وعظيم. كنا قبل اليوم؛ ننادي- حتى بحت حناجرنا- بحصر مكنوزنا الآثاري، والتعرف عليه، وتقديمه لأبنائنا وأجيالنا كمواد علمية يدرسونها في مدارسهم وجامعاتهم حتى ترسخ في أذهانهم معرفيًّا، وحتى تصبح من روافد الدخل الوطني لبلادهم إذا وضعت على خط الاستثمار السياحي. ومن ثم حمايته من عبث العابثين الجاهلين، الذين لا يعرفون قيمة لحصن أو قرية تاريخية، أو سد حجري عمره مئات الأعوام، ولا يبالون لجهلهم وحمقهم بكتابات ونقوش وخطوط صخرية، تعود إلى مئات وآلاف من الأعوام، وهي في مجموعها من الشواهد الحضارية لهذه البلاد في مدنها وقراها، وما أكثرها وما أجملها وأثمنها لو كانوا يعقلون.
«من المهم أن تُبنى ثقافتنا وفهمنا لما نملك من آثار في كافة أرجاء الوطن؛ على معرفة مؤصلة علميًّا، بأن حضارات الأمم، ودرجة تمدنها، تقاس بما تقدم من مجهودات إنسانية، وبما تضيفه من منجزات علمية، تسهم بها في خدمة البشرية جمعاء، وفي رخاء وإسعاد الإنسان أيًّا كان، وفي أي زمان ومكان. فما تتوافر عليه كثير من الأمم في هذا العالم من آثار عمرانية وحضارية شتى، هو خير دليل على ما قدمته وأضافته وأسهمت به على مر عصورها في حضارة العالم أجمع.
«إننا يا سادة.. من تلك الأمم التي لها باع طويل في صنع حضارة العالم في أزمنة غابرة، ونملك من الأدلة والشواهد؛ ما يعد كنزًا لا يقدر بثمن، فهل نعرف ونقدر ما نتوفر عليه من كنوز أثرية في مدننا وقرانا على خارطة التراب الوطني بكامله..؟
«الحقيقة في هذا الجانب مُرة.. ليس فقط نحن نجهل القيمة التي تمثلها آثارنا، ولكننا نجهل الكثير منها، بل ونزيد في جهلنا؛ بعدوان صارخ من البعض على هذه الآثار، تدميرًا أو تشويهًا، إلى درجة مؤسفة حقًّا، تجعلنا غير جديرين بما عندنا من هذه الكنوز التاريخية والأثرية.
«كتبت وألفت وصورت وحققت مرات عدة، ووقفت على سدود أموية، وقلاع وحصون ودروب وعيون ونقوش، وفعل غيري كثير من الباحثين في هذا الميدان، ولكن لا حياة لمن تنادي.. لا الوعي لدى الناس ارتفع، ولا الضمير المسؤول تحرك في اتجاه رصد هذه الآثار والمحافظة عليها أولًا، ثم وضعها على خارطة الاستثمار المعرفي والاقتصادي ثانيًا.
«ما يحز في النفس حقيقة، أنه لا يمر يوم في حياتنا، إلا ونفقد كنزًا من هذه الكنوز، إما بالهدم؛ كما يجري لبعض القلاع والقصور التاريخية والحصون والسدود، وإما بالتشويه والطمس، كما يجري للنقوش والكتابات الحجرية، التي تغص بها مناطق عدة في بلادنا، وخاصة في جهات الطائف ومكة المكرمة والمدينة المنورة.
«إن آثار السيرة النبوية وحدها؛ والتي تتوزع بين المدن الثلاث: ( مكة المكرمة، والمدينة المنورة، والطائف)، تعد مفخرة عظيمة لهذه البلاد وأهلها، ولما كان عليه أجدادهم وآباؤهم من فهم وإدراك، بحيث حافظوا على ما جاء في سيرة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، من ذكر لدروب وآبار ومساجد ومصليات وجبال وأودية وغيرها، فلم يمسوها بسوء، حتى وصلتنا؛ فاستلمناها عنهم بفهم سقيم، وفكر عقيم، لا يرقى إلى ما تشكله من قيم كبيرة؛ دينية وتاريخية وحضارية، فأصبحت آثارًا مجهولة عند هذا الجيل، وتحول بعضها إلى هدف للطمس والهدم، أو تغيير المسميات كما حدث قبل فترة من الزمن لمسجد الصادرة بالطائف.
«هل توقف الحال عند التشويه والهدم والجهل بهذه المعالم الآثارية العظيمة..؟ لا مع كل أسف، فقد شاع وذاع مؤخرًا؛ ما يشبه الاتجار بأحجار منقوشة، وقطع أثرية تنزع من أماكنها الأصلية، وتتحول إلى حيازات خاصة لمن يسعون للكسب والثراء من ورائها، فهم يقومون بدون خجل أو خوف؛ بعرض صور لها على مواقع ( التفاصل الاجتماعي )، ومن ثم عرضها للبيع لمن يرغب. شاهدت هذا عدة مرات، ونبهني لمثله نابهون من أصدقائي، وأنها ظاهرة جديدة لم نعرفها في مجتمعنا من قبل. إن الآثار- كل الآثار- هي مكوّن تاريخي وطني لعامة الوطن، وليس لأفراد أو فئة معينة، ونحن نعرف أن الأنظمة في كل أنحاء العالم ومنها بلادنا أعزها الله؛ تمنع الاتجار بهذه الثروة الوطنية، ذلك أن مكانها الطبيعي هو مكانها الذي ظهرت فيه ابتداءً، أو المتاحف الوطنية التي خصصتها الدولة لما هو منقول من هذه الآثار. ألم أقل لكم إننا نواجه مهمة جديدة..؟ بل همًّا جديدًا يتعلق بواجبنا حيال مكنوزاتنا الآثارية في كل شبر على أرض الوطن.
«نحن اليوم؛ وجهًا لوجه؛ أمام ثروة وطنية حضارية مهددة بالتشويه والإهمال والجهل بها، ومهددة من جديد بالاتجار بها وخروجها إلى آفاق بعيدة لمن يدفع أكثر لسراق الآثار. هنا يأتي دور الجهات المعنية اليوم، وهي المنوط بها هذا الجانب التاريخي والحضاري، الذي سوف تسألنا عنه الأجيال القادمة..؟ فنحن لم نحسن الحفاظ عليه وصيانته كما ينبغي، عوضًا عن استثماره معرفيًّا على أقل تقدير.
«بوسعنا.. بل من واجبنا؛ أن نحقق مقاربة معرفية مسؤولة مع آثارنا، وأن نخدمها كما ينبغي، حتى تكون دالة علينا بما يسر، شاهدة لنا لا علينا، فتقول لأجيالنا:
هذه ( آثارهم ) تدل عليهم؛
فانظروا ( بعدهم ) إلى الآثار..