ينطوي مصطلح المفارقة على قدرٍ غير قليل من الالتباس والمراوغة، فمنذ انتقاله من الفلسفة إلى الأدب وهو يتأرجح في سياقات شتى، ويشير إلى عددٍ من المقاصد المتباينة والدلالات المختلفة.
ففي سياق يتجه المصطلح إلى الدلالة على الخداع المقصود، ثم صارت دلالته مرهونة بالإشارة إلى ما يقع بين الظاهر والباطن من تباين واختلاف، وإلى ما يشوب العلاقة بين المتوقع والمألوف من اتساع الهوة وانفصام العلاقة.
وإذا اقترب المصطلح من التحديد والتأطير اتجه إلى الدلالة على شكل قولي يساق من خلاله معنى ولكن يقصد منه معنى آخر، وبذلك تغدو المفارقة ضربًا من اللعب اللغوي الذي يقوم على التضاد والتناقض.
ويمكن القول: إن المفارقة في بعدها الدلالي تنتمي إلى المعنى الثاني وفقًا لما أسس عبدالقاهر الجرجاني رائد البلاغة العربية؛ فاللفظ المطلق يحمل معنى ظاهرًا هو المستوى الأول، وآخر خفيًا هو المعنى الثاني الذي يسعى القارئ إلى إدراكه رفضّا للمعنى الأول واستبعادًا لما يترتب عليه من سطحية ومباشرة.
ومن هذه الناحية تظهر قيمة المفارقة-خاصة- في سياق الإبداع الأدبي؛ فهي إحدى وسائل تعميق النص وتشكيل جماليته بما يجعله نصًا «يطرح ظاهرًا ويخفي مستورًا، يقول متعارفًا ويبطن مضمورًا».
وتمنح المفارقة النص الأدبي أيضّا طابع التكثيف؛ فالخطاب الذي يطلق المفارقة خطاب رشيق بعيد كل البعد عن الترهل الذي يثقل الكتابة ويحيلها إلى مادة إخبارية فارغة من الجمالية وهو مع ذلك قائم في الأساس على التضاد بين المظهر والمخبر.
والحق أن المصطلح وإن قطع شوطًا معتبرًا نحو التأطير المعرفي فهو ما زال في حاجة إلى شوط آخر يتخلص فيه مما لحقه من تضارب وتناقض؛ حتى يصل إلى مرحلة النضج المصطلحي التي تعني خلوه من عثرات التكوين ورواسب الجمع بين حقول معرفية مختلفة، فهو في هذه المرحلة من عمره المصطلحي مصطلح يبث عددًا غير محدد من العلامات، وينتج كثيرًا من الدلالات التي لا تخلو في بعض الأحيان من التعارض الظاهري، وهو ما يؤول إلى ضبطه وتحديده على نحو أشد تركيزًا.
ومع ذلك التأرجح المصطلحي فإن المفارقة في عددٍ من الكتابات السردية صارت تختص بالدلالة على التعبير الرشيق الذي يوحي بالتناقض مع ازدواج الدلالة والحضور الساخر المدهش الذي يأخذ بلب القارئ ويستفزه في الوقت ذاته.
ولا يغيب عنصر القصدية عن المفارقة؛ فإن المنشئ واعٍ بما يرسله من رسائل عبر هذه الآلية المراوغة المخاتلة التي تجمع بين ظاهر وباطن، ومعلن وخفي، وهو ما يطبع السرد بثنائية أثيرة تتجاذبه من طرفين كل منهما ينافي الآخر ظاهريًا ويعانقه على الصعيد المعنوي.
ومن ثم تغدو المفارقة إحدى وسائط النص الأدبي-خاصة- على صعيد الخطاب السردي إلى تحقيق طابعه المخاتل المراوغ القائم على التناقض والتعارض في الطرح، لكنه في التحليل الأعمق لم يفرق إلا ليجمع، ولم يضاد إلا ليرادف، ولم يتباعد إلا ليقترب.
** **
- د. رقية بنت ناصر الحربي