د. تنيضب الفايدي
أتذكرون قول دريد بن الصمة الحكيم وشيخ وأحد فرسان قبيلة بني جشم:
أمَرْتُهُمُ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى
فلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ إلا ضُحَى الغَدِ
فلمَّا عَصَوْني كنْتُ منهُمْ وقد أرَى
غوَايَتَهُمْ وأنَّني غيرُ مُهتَدِ
ومَا أنَا إلا من غَزِيَّةَ إنْ غوَتْ
غوَيْتُ وإنْ تَرشُدْ غزِيَّةُ أَرْشُدِ
لقد تقدّم هذا العملاق بخطبة الخنساء ( تماضر بنت عمرو السلمية )، ورغم شهرة دريد بن الصمة ومنزلته بين العرب وشعره الحكيم، إلا أن ( تماضر) رفضت الزواج منه، في قصة طويلة لا مجال لذكرها هنا، وآثرت الزواج من أحد بني قومها، فتزوجت من ابن عمها رواحة بن عبد العزيز السلمي، ثم انفصلت عنه بعد أن أنجبت ولداً، اسمه (عبد الله)، ثم تزوجت من ابن عمها مرداس بن أبي عامر السلمي، وأنجبت منه أربعة أولاد، وهم يزيد ومعاوية وعمرو وعمرة، واستشهد أبناؤها الأربعة في معركة القادسية، هذه المرأة الشاعرة المؤثرة القوية بشخصيتها ديارها صفينة، وكم هي معتزة بها، وبلدة صفينة من أحد تلك المواقع التي أخذت بُعداً تاريخياً عريقاً،حيث ذكرها عددٌ من المؤرخين كالحربي والحموي وغيرهما، وعرفت بالشاعرة الخنساء رضي الله عنها التي اشتهرت برثائها أخويها صخر ومعاوية اللذين قتلا في الجاهلية، حيث ذكرت بلدة صفينة وجبل علم في أشعارها، وزادت شهرتها بعد اختراقها درب زبيدة التاريخي بسبب توفر الماء والآبار والمزارع.
وصفينة مدينة صغيرة لا زالت باسمها التاريخي حيث تقع صفينة في عالية نجد بين مكة والمدينة المنورة في الجنوب الشرقي من المدينة والجنوب الغربي بالنسبة للمهد، وكانت قرية تراثية قديمة على طريق الحج، حيث يمر بها الحجاج القادمون من العراق، ويخترقها درب زبيدة التاريخي، ويعبرها حجاج بلاد الشام ومصر القادمون من الطريق الشرقي المتفرع من المدينة المنورة.
يقول الحربي في « المناسك» (ص89) أخبرني أبو إسحاق البكري قال: طريق حاذة وصفينة استحدثه عيسى بن موسى وأنشدني البكري:
سهّلْتَ يا عِيسَى طرِيقَ الحجاجْ
فهو يلوح كملاء النَاجْ فيه
مَرَاد للنجاة الهِمْلاجْ
بمدفع الحرّةِ ذات الادلاج
ويقول: «بين صفينة وحاذة متعشاً يقال له دكة، ومن صفينة إلى حاذة عشرون ميلاً، وفيما بين صفينة وحاذة عين غزيرة الماء».
وتشتهر قرية صفينة بالمزروعات وخاصة النخيل، وقد قال الشاعر الكلابي الذي عاش في عهد بني أمية هذا البيت الذي يدل دلالة قاطعة على أنها قديمة جداً:
كأن رداءيه إذا قام علقا
على جذع نخل من صفينه أملدا
قال أبو نصر : صفينة قرية بالحجاز على يومين من مكة ذات نخل وزروع وأهل كثير.
قال الكندي: ولها جبل يقال له الستار، وهي على طريق الزبيدية يعدل إليها الحاج إذا عطشوا.
وعقبة صفينة : يسلكها حاج العراق وهي شاقة.
معجم البلدان للحموي (3/471)، وذكر عرام السلمي عن صفينة: « بها مزارع ونخل كثير، كل ذلك على الآبار، وبها جبل يقال له ( الستار) على طريق زبيدة يعدل إليها الحاج إذا عطشوا وبحذائها ماء يقال لها النجارة بئر واحدة».
أسماء جبال تهامة لـ: عرام السلمي (ص40).
ويذكر الرحالة بيرتون بأنه شاهد قوافل الحج العراقية التي كانت تأتي إلى صفينة لمرافقة قوافل الحجيج الأخرى على الطريق الشرقي، وقد وضع بيرتون وصفاً للقرية، وذكر بأنها تشتمل على منازل تتراوح بين 50 إلى 60 منزلاً كانت مبنية بالطين ذات أسقف مستوية ولها سور للحماية، وتحيط بالقرية واحات النخيل ذات الإنتاج الوفير، بالإضافة إلى مزارع الشعير والقمح والذرة، ويذكر أيضاً أن سوق البلدة في مثل هذا الوقت من السنة كان عامراً بما في ذلك الدجاج الذي كان يعرض للبيع في السوق».
ومكث إبراهيم رفعت باشا في صفينة يومي 6 و 7 محرم عام 1319هـ فيصف الموضع بأنها « قرية صغيرة، أبنيتها بالطين المكدس بعضه فوق بعض، يسكنها نحو 400 نسمة وبها حوالي 100 نخلة صغيرة وكبيرة وقليل من شجر الليمون وشجر الطرفاء، وفيها 36 بئراً مبنية بالحجر، عمق الواحدة منها ثلاث قامات، وماؤها رائق نظيف معين لا ينضب، ولكنه لا يروي وأراضي هذه القرية صفراء تشبه أراضي مريوط يزرع بها الشعير والقمح وبعض الخضروات.
مرآة الحرمين (1/375).
ورصد البيتوني صفينة على الطريق الشرقي فقال: « بها نخل وآبار عذبة».
الرحلة الحجازية (ص212).
وقد خلدت الخنساء ( صفينة ) حيث ذكرتها عدة مرات عند بكائها وتفجعها على أخويها صخر ومعاوية حيث قالت:
طرَقَ النعيّ على صفَينة غدْوةً
ونَعى المعمَّمَ من بني عمرو
حامي الحقيقة والمجيرَ إذا
ما خيفَ حدُّ نوائبِ الدهر
الحيّ يعلمُ أنّ جفنتهُ
تغدو غداة الريح أو تسري
فإذا أضاء وجاشَ مرجلُهُ
فلنِعْمَ رب النار والقِدْر
وبالقرب منها جبل يطلق عليه جبل علم والذي وصفت الخنساء به أخاها صخراً عندما قالت:
وإن صخراً لوالينا وسيدنا
وإن صخراً إذا نشتوا لنحّار
وإن صخراً لمقدام إذا ركبوا
وإن صخراً إذا جاعوا لعقّار
وإن صخراً لتأتمّ الهداة به
كأنه علم في رأسه نار
حمّال أبوية هبّاط أودية
شهّاد اندية للجيش جرّار
كما كانت صفينة مركز قبيلة بني سليم : قوم الخنساء قديماً، وأكثر ما اشتهرت الشاعرة الخنساء بشعر الرثاء حيث قالوا : بأنها أشعر شعراء الرثاء، بل قال النابغة الذبياني : الخنساء أشعر الإنس والجن.
ولقد قيل لـ: جرير الشاعر: من أشعر الناس؟ فقال: أنا لولا الخنساء.
فقيل له: لِمَ فضلتْك؟ فقال: لقولها:
إن الزمان ليفْنى ماله عجب
أبقى لنا ذنباً واستأصل الرأس
إن الجديدين في طول اختلافهما
لا يفسدان ولكن يفسد الناس
وتعد الخنساء من المخضرمين؛ لأنها عاشت في عصرين : عصر الجاهلية وعصر الإسلام، وبعد ظهور الإسلام أسلمت وحسن إسلامها.
وقد طغت شهرتها على النساء قديماً وحديثاً، وتوفيت سنة 664 للميلاد.
واشتهرت الخنساء بالبكاء والتفجع على أخويها معاوية وصخر، ولكنها أفردت أخاها صخراً بالرثاء وبكته ثلاثين عاماً، وقررت ألا تنزع ثوب الحداد طوال تلك السنين وهي قد تجرعت كأس اليتم والثكل حتى الثمالة، وجاء نعي أخيها صخر يزيد الطين بلة مما ألهاها عن كلّ حزن قديم، حتى جعلها في مأتم دائم لايجف لها دمع ولا مجال فيه لعزاء أو تسلية ولا مكان لبلسمة أو خُفُوت، ودمعها يفيض مدراراً.
كانت الخنساء من نساء العرب الخالدات في التاريخ، وديوان شعرها من أجمل دواوين الشعر، والخنساء لقب لها، وأبوها عمر بن الشريد السلمي سيد قومه وعظيم أهله، وأخواها صخر ومعاوية، وهما من أجرى وأشجع فتيان العرب وأكثرهم إقداماً وفروسية، وقد كان أخوها صخر إلى جانب فروسيته وكرم خصاله من أجمل فتيان العرب في الجزيرة العربية وقتئذ قبل الإسلام بفترة قصيرة، وسبب موته أنه غزا بني أسد فطعنه أبو ثور الأسدي فمرض منها عاماً ثم مات.
واشتهرت الخنساء وعلا صيتها كشاعرة من فحول الشعراء، وقد تفوقت على كثير من جهابذة الشعراء، وكان يعرفها القاصي والداني، وأكثر شعرها رثاءً في أخيها صخراً، وضربت الخنساء في مجال الشعر والرثاء والتصدي بأكثر من سهم، وقال فيها جرير ذات مرة : والله لأني أشعر الشعراء لولا هذه الخنساء (....)
حيث قال كلمة لاتتناسب مع مقام الخنساء، أما بشار بن برد فقد قال : لم تقل امرأة قط شعراً إلا تبين الضعف في شعرها، فسألوه وهل الخنساء كذلك؟ فإذا به يقول: الخنساء فوق الرجال، وقال المبرد: إن أعظم النساء في الشعر هما ليلى الأخيلية والخنساء السلمية.
وهاجرت الخنساء إلى المدينة المنورة وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم وأعلنت إسلامها وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستمع إلى شعرها ويطرب له وقد تعود أن يقول لها « هيه يا خناس « أي أحسنت وأبدعت بفصاحتك، وقيل إن الخنساء ظلت تقول الشعر والرثاء في أخيها صخراً وتبكي عليه، وقدم عليها الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه في موسم من مواسم الحج وقد نهاها عن العويل والبكاء الذي يأباه الدين الإسلامي والشريعة السمحاء.
وقد سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخنساء ذات مرة فقال لها اتعب عينيك هكذا ؟ قالت بكائي على رجالات مضر في الجاهلية.
فقال: إنهم في النار، فقالت : أبكيهم أكثر بعد الإسلام لما ماتوا عليه من الضلال، قال : صدقت يا بنت عمرو.
مهد الذهب للدكتور/تنيضب الفايدي (ص150).
خرجت الخنساء في كثير من الغزوات مع العرب المسلمين وصحبة الجيوش الظافرة في مسيرها، وسميت « بأم الشهداء» لأنها حرضت أولادها الأربعة على الخروج مرة واحدة للجهاد وإعزاز دين الله الحق، وقد نالوا الشهادة جميعاً في معارك القادسية مع الفرس والتي انتصر فيها العرب نصراً حاسماً، وأصبح أمامهم الباب مفتوحاً لتحرير العراق من نير الفرس المجوس، ثم فتح فارس وأعلا دين الله في هذه البلاد، وقد قالت الخنساء كلمات خالدة قبل الزحف الأعظم لفتح العراق وفارس: ( يا أبنائي إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو ما هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم، واعلموا إن الدار الآخرة خير من الدار الفانية، ويقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون) الآية.
فبعد انتهاء المعركة حمل النعاة إلى الخنساء أنباء استشهاد أبنائها الأربعة مرةً واحدة وتملكتها هزة المفاجأة، ورفعت رأسها بعد ذلك إلى السماء في إيمان بالغ، تسأل الله تعالى أن يعجل بها لتلحق بالأحبة في جواره الكريم وتظفر بما ظفروا به من النعيم المقيم وقالت: (الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم جميعاً في ميدان الشرف وتحت راية الجهاد في سبيل الله وأعز شرفي في هذا بأن أتم نعمة النصر الأكبر على المسلمين) وجاءت بأنها قالت ( الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر الرحمة، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعطيها أرزاق بنيها الأربعة، وكان لكل منهم مائة درهم حتى قُبض.
وأخبار الخنساء كثيرة، وهي أشهر من أن تذكر، ومن أشعار الخنساء الكثيرة في الرثاء لأخيها صخراً الذي كان من أجمل فتيان مضر العدنانية في آخر سنوات الجاهلية، حيث تتذكره عند طلوع الشمس وغروبها:
يذكرني طلوع الشمس صخراً
وأذكرُه لكلِّ غروبِ شمسِ
ولو لا كثرةُ الباكينَ حولي
على إخوانهم لقتلتُ نفسِي
ومعالم صفينة لازالت ماثلة للعيان ولاسيما أجزاء من طريق الحاج وبعض الآثار التي تدلّ على العمق التاريخي لبصمات صفينة مثل: قصور أثرية مهجورة وتعرف الآن بحارة القصر، كما يوجد بها آبار قديمة كانت تستعمل لسقاية الحجيج.
وقد تطورت وأصبحت بلدة متطورة بها خدمات متعددة ومنها الخدمات التعليمية بجميع مراحلها.
ويتبعها إدارياً عدد من القرى والهجر مثل: هباء ووادي بيضان ونجار والرويضة وغيرها.
وعندما تتجول بها تشاهد بعض المآثر القديمة مدفونة تحت الأرض ويدل ذلك على وجود بنيان قديم، ومن أحيائها القديمة القصر والقلعة وقصر برزان والنزلة، ومن أحيائها الحديثة الشام والجديدة ومشرفة والرفيعة والمنقى وشلقا والعريدة.
وأهالي قرية صفينة يدركون الأهمية التاريخية للقرية وما تمثله من إرث تاريخي، مما أدّى إلى مساهمتهم في الحفاظ على الآثار للبلدة القديمة.