كان السيد وايت قد قرر الانتحار في ذلك اليوم بالتحديد، كان يوماً مثالياً بالنسبة له وشعر بداخله أنه يريد في هذا اليوم الرحيل, لم يكن لحياته أي معنى فهو عاطل عن العمل منذ أكثر من خمسة أشهر بعد أن أصيب بالسكري وبُترت ساقه اليمنى جراء ذلك, وبلغ به العمر عتياً بحيث أصبح الحصول على عمل صعباً، فمن يقبل برجل يحمل ساقاً واحدة ولا يجيد شيئاً في حياته سوى تنظيف الحدائق والشوارع من النفايات؟ كان فيما مضى يتذمر من وظيفته باستمرار, فتارة البرد قارس وتارة الحر يذيب دماغه ويحصل على قدر ضئيل من المال, أما الآن فهو يحبه ويتمنى لو يستطيع العودة للشوارع من جديد على الأقل ليحصل على قوت يومه، لقد خذله جسده وزوجته لا تكف عن التذمر من حالته وابنهما يحتاج للعناية باستمرار. استند على حافة السرير وهو يفكر كيف سينهي حياته بطريقة لا تمس كرامته بصلة.
فلم يغسل وجهه ولم يفرش أسنانه كان يشعر بعدم جدوى هذه الأمور الآن فجثته ستتعفن مهما اعتنى بها, فرك عينيه وأزال باقي الرَمص منها كان ينتزعها واضعاً إياها بين السبابة والإبهام، ينظر إليها قليلاً ثم يفركها ويرميها وكذلك يفرك أذنيه اليمنى ثم اليسرى ويشم رائحتها قائلاً في نفسه «أيضاً الأذن تتبرز كما الإنسان يفعل والعين تتبرز كما الإنسان يفعل جميع أعضائنا الخارجية عندما تحسن العمل تجد لها عملية إخراج خاصة بها». يفعل هذا دائماً فور استيقاظه كحركة لا إرادية ولكنها بالنسبة إليه ممتعة على نحو ما وجزء من روتينه. نظر بجانبه فوجد زوجته السيدة قرين نائمة بجانبه وصوت شخيرها يعلو فوق صوت العصافير أراد أن يفر بجلده من جانبها، لأول مرة ينظر إليها بتمعن، جسدها الضخم ممدداً على طول السرير ورجليها خارجة من تحت اللحاف وتهزها باستمرار ذراعاها الضخمان والمترهلان اللذان تضعهما تحت خدها الأيمن، شعرها الأشعث بلونه المائل إلى الصفرة. نظر فقط من الخلف وبدا له أن زوجته قد بُدلت وأن هذا الجسد الذي يرقد بجانبه عقاب قادم من الجحيم ينذره بوجوب المغادرة وفجأة شعر بجسد آخر ضخم الجثة ويصدر شخيراً متناغماً مع صوت زوجته ممدداً عند أقدامهم، إنه ابنه المجنون بلو الذي يقاسمهما الفراش أحياناً لأن قرين كانت تخاف عليه من أن يؤذي نفسه ففي الليلة الفائتة استيقظ بلو وخلع سرواله وبال عليهما في الفراش وهو نائم. كان يسير أثناء نومة كثيراً وخصوصاً عندما يبذل مجهوداً في النهار سواء في اللعب أو الدراسة أو حتى في الصراخ ولم يكن هذا حدثاً استثنائياً لأن زوجته كانت هكذا دائماً منذ كانت طفلة. سحب ياقة قميصه المعلق على حافة السرير وفرك بها أذنيه ثم عينيه بحث عن عكازه الذي اقتصه من جذع شجرة وهو غليظ وناعم ويصلح للاستخدام بدلاً من شراء واحدٍ خاص بذوي الأقدام العرجاء والمبتورة. خرج ليبحث عن مكان مناسب يموت فيه.
اتجه نحو منتصف ساحة القرية حيث يرمي الناس حبوب الأرز وبذور دوار الشمس للعصافير والحمام لتلتقمه في طريقها. جلس على كتلة من الجبس باللون البني مبنية على شكل كرسي يصل طوله لمتر ونصف يراقب الطيور وهي تأكل ثم رفع رأسه عالياً ورأى مجموعة أخرى من الطيور المهاجرة باللون الأبيض لها ذيل طويل وجميل لا يعرف اسمها ولكن أعجبه منظرها وشكلها وهي تطير مجتمعة بشكل منتظم وكأن هناك من قام بتجنيدها، كانت تمضي نحو الجنوب وتميل بشكل متوازن مع الريح وبينما هو يحدق مشدوهاً نسي جسده متصلباً على الكتلة الأسمنتية وعينيه جاحظتين في السماء فاغراً فاه حتى سال اللعاب وسقط على ياقته. اقترب منه طفل صغير كان واقفاً في الخلف ممسكاً بيد أمه التي تتحدث في الهاتف منذ أكثر من ساعة، همس الطفل في أذن وايت قائلاً «نحن أيضاً لو أننا نمتلك أرياشاً بدل الأيادي لكنا استطعنا الطيران مثلها تماماً ثم ضحك ضحكة خبيثة وأكمل «رأيت تحت إبطيّ أبي شعراً كثيفاً ولكنه يحلقه باستمرار لعلي حين أكبر سيصبح لي شعر كثيف تحت إبطيّ مثله ولن أحلقه أبداً سأجعله يكبر حتى يستطيع حملي في الهواء» لم يتسن له رؤية وجه الصبي فقط انتزعته أمه بسرعة فائقة وهي تمضي نحو المتحف الذي يقع في الخلف ويحوي على بعض النفايات التي يعاد تدويرها. قال وايت محدثاً نفسه من جديد «أريد أن أرى البحر لآخر مرة لأحتفظ في مخيلتي بصورته حتى تكون آخر شيء أراه ثم ألقي بنفسي في أحشائه. حمل عكازه وجر جسده المائل نحو البحر فهو يقع في الجنوب الشرقي من منزله كان فيما مضى يزيل النفايات من على أطرافه ويمشط ترابه بالمشط الزراعي فهو يحب أن يرى الرمال متموجة ونظيفة حين تغسلها الأمواج. وصل إلى حافة الشاطئ ومد ساقه الوحيدة على الرمل الدافئ ثم تمدد وأغمض عينيه وهناك أيضاً اقترب منه طفل صغير وقال هامساً له «نحن أيضاً لو أننا نمتلك جلداً سميكاً كالأسماك لاستطعنا الغوص في الماء ورؤية العوالم الخفية» وأضاف يكمل «رأيت جلد أبي يتقشر باستمرار وفي ظهره يزداد سمكاً فتدهنه أمي أثناء نومه لعلها تخاف أن يتحول لسمكة فيهرب عنها، عندما أكبر لن أدع أي امرأة تقترب مني وسأجعل جلدي صلباً دائماً وعندما أتحول لسمكة سأهرب بعيداً جداً بحيث لن يجدني أحد» فتح عينيه ورأى طفلا آخر تجره والدته عائدة به من حيث أتى. رفع يديه عالياً باتجاه الشمس ورأى أصابعه الشفافة حمراء يجري فيها الدم بسهولة قبض عليها وأعاد فتها مجدداً وكأن ما يحدث كان يحدث لأول مرة فهو قد نسي يديه المتعافيتين وصب جُل تفكيره في ساقه المفقودة» مالي أتذمر ولي ذراعان ينقبضان وينبسطان بكل يسر وسهولة؟ لعل بهما ما يفيدني في عمل ما، لعل بقاءهما حيتان وكاملتان هو لأن اليوم ليس مناسباً للموت, حمل عكازه ونفض عن ملابسه الرمال وهو يردد اليوم لم يكن مناسباً، سأعمل بهما ما يتوجب عمله للحصول على المال لعلي أمسح الأحذية أو أتعلم العزف فأنا أجيد التعلم بسرعة وما تزال ذاكرتي تعمل بشكل جيد جداً. استعاد حيويته منتشياً بأصابعه العشرة وفي طريقه نحو المنزل حطت على كتفه حمامة بيضاء لم تفعل شيئاً سوى التبرز على ثيابه والفرار. كل خارج نظيف ولامع تسيل من أحشائه القذارة, كل ما هو أمام أعيننا مفعمٌ بالحياة يحمل بداخلة موتٌ لا يرحم، بداخل كل خير شر وكل شر خير بداخل كل عمل صالح آخر طالح وكل عمل فاسد آخر يصلحه هكذا راح يردد وايت وهو يعبر الشارع ماداً يده ليتحدث معها ولم يسعه النظر للأعلى كي يرى الموت. كان قد رحل بواسطة قطعة حديد سقطت من البناء الذي يشيد حديثاً في البلدة فهكذا هو الموت أناني أحياناً يسرق من يستعيد الحياة بشيء ضئيل قابل للصلاح وهو ممزق من كل جهة. أناني ورحيم هكذا أسميه أنا لأنه لا يترك لك مجالاً للمفاوضة والألم فينتزعك قبل أن تدرك ما أنت مقدم عليه.
** **
- عُلا الحوفان
Twitter: @ola29x