الثقافية - حاورته - مسعدة اليامي:
في إرشيف كل إنسان بذور لعدد من الحكايات المتزامنة التي تتنافس لتحظى باللقب الأول، لكنّها تؤثر جمالية العتمة ولذة الخفاء والتواري، بانتظار فتح صندوق الذاكرة، وتحريرها من جمالياتها ولذائذها، لتمنح بعضاً منها للمتلقّين والقرّاء، إنها حكايات الجمال والشقاء.. ذلك ما ذكره الروائي أحمد السماري عن روايته الأولى الصريم, فإلى تفاصيل أكثر عبر هذا اللقاء.
* كيف كانت البداية مع القراءة؟ وما الكتب التي لا تتخلى عنها كونها سبب نضج موهبتك الكتابية؟
- بدأت القراءة غير المنهجية في فترة المرحلة الابتدائية، والفضل يعود إلى معلم التربية الفنية الذي كان اسمه (الأستاذ علي) في مدرسة أحمد بن حنبل، حيث كان يخصص الحصة الأولى للرسم, والثانية يسرد علينا قصصاً وحكايات معظمها من روايات زمن السبعينيات الميلادية، خصوصاً للمنفلوطي، ونجيب محفوظ، وعبدالكريم الجهيمان, وغيرهم, وعندما تنقطع تلك الحكايات في الإجازة الصيفية نذهب إلى المكتبات في البطحاء، ونشتري روايات أخرى، ونتقاسم تكلفتها، وأشترك في قراءتها مع مجموعة من الأصدقاء.
* القراءة فن كم الوقت الذي تمضيه بين صفحات الكتب, كتاب سرقك من نفسك و تنصح بقراءته؟
- لقد استطعت أن أرفع معدل القراءة خلال الخمس عشرة سنة الماضية إلى مائة كتاب سنوياً، واستمررت على ذلك, وتحظى قراءة الروايات بنصيب الأسد, ثم كتب التاريخ والسير الذاتية, أما نصيحتي عموماً «اقرأ ما تحب وداوم عليه».
* ما الأسباب التي دفعتك إلى الولوج إلى عالم الرواية؟
- الميول الشخصي يختلف من إنسان إلى آخر, لكني وجدت في الروايات ذلك العالم السحري, تجعلك تعيش أكثر من حياة كما يقول أستاذنا العقاد.
* قراءتك للمشهد الروائي قبل أن تكون من ذلك العالم وبعد أن أصبحت جزءًا منه؟
- عالم الرواية عالم جميل وفاتن, لم يتغير الوضع, كنت في جزء القراءة فقط, فصرت في جزء القراءة والكتابة معاً.
* ما أهم الروايات التي قرأت سواء كانت عربية أو عالمية؟
- لأنني أنتقي الروايات فإن معظمها رائع, ولا أركز على اسم الكاتب كثيراً, والقليل منها خيب ظني, وهذا أمر طبيعي في عالم الكتب.
* أي أنواع الروايات تأسرك؛ التاريخية, الاجتماعية, العلمية؟ وما السبب في ذلك؟
- أميل إلى الواقعية, والأصل هو المتعة التي تحصل عليها من تلك الروايات, ثم جمال الأسلوب للكاتب, وأجد ذلك أكثر في الروايات ذات الطابع التاريخي والفلسفي.
* ماذا تقول للقراء عن روايتك الأولى الصريم؟
- إن الرواية الأولى للكاتب ليست بالضرورة أن تكون تلك التي تحمل الرقم واحد في تاريخ نشره، بل قد تكون تلك الرواية الضائعة منه، ومن تلك يتفرّغ الكاتب بعد لكتابتها وتوثيقها، ولا يزال يحلم بها، كما قد تكون تلك التي دفعته إلى كتابة روايته الأولى المنشورة. وربما في أرشيف كل إنسان بذور عدد من الحكايات المتزامنة التي تتنافس لتحظى بلقب الأولى، لكنّها تؤثر جمالية العتمة ولذة الخفاء والتواري، بانتظار فتح صندوق الذاكرة، وتحريرها من جمالياتها ولذائذها، لتمنح بعضاً منها للمتلقّين والقرّاء. إنها حكايات الجمال والشقاء والأمل والحنين، حكايات الحبّ والصراخ والتجريب. يتذكّرون ليذّكروا بما كان وما صار، وبجزء ممّا يتأمّلون أن تفضي إليه في زمن قادم، على اعتبار أنّ الكلمة لا تقف عند حدود زمان أو مكان، بل تكمل رحلتها بمعزل عن أصحابها وحضورهم. هي الحاضرة دوماً، رغم غياب أصحابها. والحكايات هي الكلمات الحاضرة رغماً عن أنف الزمن والغياب. الروائيون سفراء الخيال إلى الواقع وموفدون الواقع إلى الخيال في الوقت نفسه، يمضون في الطريق ذي اتّجاهين، يعملون على كشف درر الأعماق المخبوءة في داخل الإنسان، يمضون لتجميل الحياة الإنسانية بالأدب، لا يقفون عند حدود أو قيود في كشفهم وتعريتهم وتوثيقهم وسردهم وتخيلهم، يبتدعون عوالمهم التي قد تنافس الواقع في تفصيله ومصادفاته الدائمة.
تعدّ تجربة كتابة الرواية الأولى تجربة حميمية خاصة، لا يجد الكاتب لها مثيلاً في أعماله التالية، ربما لأنّه كتبها بماء القلب وأولاها عنايته كلّها، ربما لأنه أفرع بين صفحاتها مخيّلته العذراء، ربما لأن كل أوّل شيء في حياة الإنسان لا يمكن نسيانه على غرار الحب الأوّل!، يقول الكاتب الأرجنتيني فرناندو سورينتينو؛ «كوني أمضيت خمسة عقود من عمري في الكتابة، أنصح كل من يحاول كتابة سرد أدبي ألا يكون أحمق، ولا يندفع إلى نقطة النهاية. بل يعود مليون مرة، ويعيد قراءة ما كتبه، ويعيد كتابته دون أن يتعب. أنصحه بكتابة ما يحبه هو وما يرغب هو في قراءته.»الفكرة الروائية تحتاج إلى قالب يلائمها فلا يضيق بها ولا يجعلها مترهلة. هي قوَّة الفنّ البنَّاءة وهي قوَّة العنف الذي يهز الوجدان، هي حول القدرة على جعل هشاشتنا ذهبًا، مهما بدتْ أيَّامُنا قاتمةً. لنتذكر أن العمل الروائي عمل تخييل وتأمل وبحث بالدرجة الأولى، الرواية بحث دائم في المنطق وغير المنطق أحياناً، تخطط حبكتها واتساق بنائها وبناء شخصيتها واستخراج ثيماتها، كلها محاولات لصناعة معنى ووجهة نظر، محاولة للبحث عن الحقيقة من خلال سرد الأكاذيب باستخدام الحكاية كحيلة سردية، لا بد من ترك العنان للكاتب لسرد خياله وتدوين ما لديه من أحداث وشخصيات وحبكة وحوارات، مع الانضباط بمنطق النص المكتوب وأصوله، حتى الوصول إلى خط النهاية. بعد ذلك تأتي مراجعة الرواية، ترتيب الزمن، وتوفر الدهشة، وسلاسة الحكاية، وإعادة الصياغة، وضبط صوت وأسلوب الراوي، وإضافة شخصية أو حذف أخرى، العملية الإبداعية، خصوصاً في كتابة الرواية في غاية التعقيد الشديد، وبها الكثير من التفاصيل، وأن تتجنب الوقوع في المستويات النمطية المستهلكة، والفراغات المعرفية، وتصل بنصك إلى سحر البيان ودهشة المتلقي، والمعرفة الجمالية، وعندها يكون للحكاية روح ومعنى، يقول كونديرا «روح الرواية هي روح التعقيد، إذ إنها تقول للقارئ، إن الأشياء أكثر تعقيد مما تظن».
* نأتي إلى روايتك الثانية قنطرة الرواية دافئة حتى الألم والموت من أين استقيت تفاصيل تلك الرواية التي تنضح بالأصالة؟ وما أهم المراجع والكتب التي قرأت قبل أن تكتبها؟ وهل عاصرت ذلك الجيل من بوابة التجربة والاحتكاك المباشر أم أن الخيال لعب دوره؟
- كانت الأغاني القديمة هي ملهمي الأول لهذه الرواية, فقد استمعت إلى أكثر من خمسمائة أغنية شعبية من أغاني فنانين تلك الفترة أمثال: فهد بن سعيد (وحيد الجزيرة), وعيسى الأحسائي، وبشير شنان, سلامة العبدالله, وغيرهم, ثم النبش في الذاكرة لكوني ابن الحارة الشعبية حتى عمر الخامسة عشرة, والمقابلات الصحفية القديمة لبعض الفنانين ولاعبي الكرة المعتزلين, ومقابلة بعض من عاش ورافق بعض شخصيات الرواية, أما التفاصيل فهي محض خيال.
* النهاية المفتوحة هل يشكل ذلك الجسر في مواصلة البحث عن جسور تعمل على توصيل الفن الشعبي الذي غاب؟
- كانت رمزية وضع العود على السرير وتغطيته باللحاف من قبل وحيد هو تعبير عن تراجع ذلك الفن ودخوله لمرحلة الغيبوبة, وكانت وصية وحيد (بطل الرواية) «اتركوه نائم, تعبان.. هو في غيبوبة, فيوماً ما سيفيق ويصحو من الغيبوبة, أرجوك ولا تأخذه إلى المقبرة».
* طعمت رواياتك بالشعر الفصيح والشعبي الغنائي هل ذلك سر جمال الطبخة؟
- مسألة تقدير جمال ذلك متروك للقارئ, ولكن بلا شك أن تلك الأغاني الخالدة وكيف أبدعت؟, وبقيت حية إلى يومنا الحاضر, لأنها ثمرة التلقائية ونتاج الصدق وحب الفن للفن.
* شخصية سارة: سارة بنت عنبر, الدكتورة نوف بنت سارة (الطقاقة) العنف, العبودية, الحرية, الغربة, المرض, ذلك العذاب كيف قدرت على توصيله والتعايش معه؟
- الرواية صوت ضمير المحرض على البوح والإفشاء, أشبه بطقوس الاعتراف التي غايتها التخفّف من الذنب, لأجل التماس الخلاص, والتسامح, عن بعض تجاوزات تلك الحقبة على بعض فئاته المهمشة, وعاشوا في تلك الأحياء, وأن يجد فيها كل فنان مبدع ووحيد, السكينة التي راوغتهم, ويشعروا أن هناك من يتضامن معهم ويدافع عن القيم المشتركة, التي بدونها تصبح الحياة غير صالحة بأن نحياها.
* أي الروايتين تأمل أن تكون مسلسلا أو فيلما سينمائيا؟ وما رأيك في الأعمال الأدبية التي تحولت لذلك مثل بعض الأعمال لنجيب محفوظ؟
- كثير من الروايات قابلة للتحول سواء للسينما أو الدراما, لكن العائق الأكبر هي التكلفة, وتخوف أكثر المنتجين من المجازفة مع ضيق السوق, والعائق الآخر هي في كتابة السيناريست, ويبقى أمل تحويل أي عمل إلى السينما أو الدراما حلم كل كاتب.