د.عبدالرحمن بن علي العريني
لكي نفهم فناً أو علماً بشكل عميق، ونستشرف مستقبله فعلينا أن ندرس تاريخه، ودراسة تاريخ العلم -أيّ علم- يسهم في فهم إجمالي لطبيعة العلم وتوجهاته وتحولاته، ويستشرف مستقبله، ونظراً للتوجه والإقبال على الابتكار الاجتماعي فقد استعرضت دراسة منشورة في يوليو 2022 التغيرات التي طرأت على مفهوم الابتكار الاجتماعي لعقود عدة بدءاً من القرن التاسع عشر من خلال تحليل الدراسات والتقارير والمقالات المنشورة في تلك الفترة، ومن يتأمل هذا التطور المفاهيمي للابتكار الاجتماعي عبر التاريخ يدرك حجم التغيير الذي طرأ، وارتباطه بطبيعة الاحتياج الذي يمثل دوافع التغيير والتحول، لكن عند مقارنته بنظيره الابتكار المادي -في المجالات العلمية والتقنية والخدمات التي يحركها كسب المال- يجد أن الابتكار الاجتماعي تابع للابتكار المادي ومتخلف عنه زمنياً بمراحل، فهو يأتي كردة فعل لما أحدثه الابتكار المادي من تحديات في المجتمع ليعالجها، ويستقي هويته منه (شبه تطابق في المراحل والنماذج)، مع وجود اختلاف وجودي جوهري بينهما.
في عالم المال من الطبيعي وجود الربح والخسارة، فيأتي ابتكار يحصد حصة سوقية كبيرة ويتربع في القمة، ثم يأتي ابتكار بعده يزيحه عن القمة، وقد يحوله لخسارة، إلا أن المشكلة تكمن أن هذا المنطق غير مقبول في الابتكار الاجتماعي فالحلول المبتكرة مستدامة ومستشرفة للمستقبل. والابتكار المادي قائم على التجريب، ومن خلال تجريب عدد كبير من الأفكار قد تنجح فكرة منها، بينما في الابتكار الاجتماعي نحن بحاجة إلى دراسة العوامل المؤثرة والمتغيرات بدقة، وإلا قد تكون حلولنا ذات أثر سلبي ويزيد الهدر.
لذا قد يفقد الابتكار الاجتماعي أثره إذا لم تتسارع وتيرته، ويتبنى رؤية مستقلة، مستشرفة للمستقبل، وتسبق الابتكار المادي، وقد تستيقظ الحكومات يوما على نتيجة مفادها أن الشركات تكسب عن طريق الابتكار ويخسر المجتمع، وتكلفة الخسارة أعظم من الربح المحقق، وهذا سيقودها إلى سن قوانين لدمج الابتكارين المادي والاجتماعي معا لمعالجة أي مشكلات تطرأ في المجتمع نتيجة لتطبيق مبتكر جديد، وهذا ما تقوم به المملكة العربية السعودية في برنامج تنمية مع مشاريع المملكة الرائدة، ومع شركات التعدين لمعالجة الآثار البيئية والاجتماعية، وقد تتنبه له الشركات المعنية بالابتكار لتطرح حلولاً ناجعة للمشكلات المتوقعة نتيجة تطبيق الابتكار المادي، ويكون من مسؤوليتها الاجتماعية، فعلى سبيل المثال بدلاً من أن تتبنى البنوك مشاريع إغاثية ضمن مسؤوليتها الاجتماعية؛ تتبنى مشاريع تتضمن حلولاً مالية، كنشر الوعي المالي، أو برامج لمساعدة المتعثرين عن السداد لتوعيتهم مالياً ولمساعدتهم لتجاوز الاحتياج، ليجتمع هدف كسب المال مع تجنب الآثار المجتمعية السلبية، وتتبنى شركات الاتصالات والتقنية زيادة المحتوى القيمي وبناء الهوية في مواجهة محتوى بلا هوية في فضاء الشبكة، أو تتبنى الشركات «الابتكار الناعم» الذي يركز على الخصائص الاجتماعية والجمالية والثقافية والفكرية للسلع والخدمات، ولا يأتي مثل هذا التوجه إلا بسن قوانين من الدول على الشركات العاملة، وإلا سيتشكل لدينا مثل كرة الثلج؛ شركات تبحث عن كسب المال ويتولد عنها آثار سلبية مجتمعية، ومجتمع عاجز عن حل مشكلاته.
نحن بحاجة إلى أن نحدد ماذا نريد أن نكون في المستقبل لنبني ونصمم حلولنا المبتكرة، لا أن تكون حلولا للواقع الذي نعيشه، وهذا لا يتأتى إلا بإشراك المستفيدين في جميع عمليات الابتكار، وإشراك وجهات نظر متعددة من مختلف التخصصات؛ لضمان تحييد المتغيرات التي قد تأثر سلبا، ومثل هذا الجهد يجب أن يُتَبنى من خلال شبكات اجتماعية أو غير ربحية تتشارك الهموم. نحن بحاجة أيضا إلى التركيز على الغايات لا الوسائل ولا الأضواء، وسيتعاظم أثر الابتكار الاجتماعي إذا أدمج في التعليم، ومارسه الطلاب من نعومة أظفارهم، وعُدّ قيمة من قيم المواطنة.
ختامًا، إن لم يُضَمّن الابتكار الاجتماعي في استراتيجية المنظمات غير الربحية والمركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي؛ فلن يؤتي ثماره المرجوة، وسيتخلف كثيرا عن الواقع المتسارع مخلفا فجوة كبيرة لا يمكن ردمها.