د. محمد بن إبراهيم الملحم
أثنيت سابقاً على اختبار الرخصة المهنية للمعلمين وشكرت هيئة تقويم التعليم والتدريب، وهو في الواقع «بداية» كما أشرت، بداية لعهد «تثقيف» المعلم تربوياً وتسليحه بالمفاهيم التربوية والبيداغوجية المهمة له في مهمته بالصف، كما أنه بداية أيضاً في شحذ أسنان تروس عجلته العلمية التي سيقدّم بها موضوع تخصصه: رياضيات، علوم، لغة، دين، علوم اجتماعية، ولكنه أيضاً «ليس نهاية» فلا يجب أن تنظر إليه مؤسساتنا التعليمية أنه غاية في ذاته، الاختبار مهم جداً وله دوره الكبير كما أشرت إلى ذلك في مقالتي السالفة، لكنه إن لم يستكمل «على رأس العمل» بما يصون له دوره ويؤكد قيمته فسوف تتضاءل هذه القيمة ويخفت ذلك الدور، المعلم الذي أتقن الدور في مرحلة الاختبار سواء كان معلماً مستجداً أو قديماً سيدخل المدرسة بعد الاختبار وقد امتلأت رأسه بالنظريات والمفاهيم التربوية الجميلة التي غالباً سيدرك أهميتها عندما يجربها في مواقف التدريس (أو يكون جربها فعلاً إن كان من المعلمين المخضرمين)، وما لم تعمل المؤسسة على إيلاء هذه المفاهيم قيمة ووزناً في لغة العمل فلن يستمر بهاؤها وأثرها الإيجابي في سيكولوجيا التدريس التي يتحرك بها المعلم خلال ساعاته الست داخل المدرسة. ولا أجد أحداً أجدر بهذه المهمة في هيكل الوزارة من «الإشراف التربوي» فهو من يتعامل مع المعلم بهذه اللغة وهو من يقدم الأنشطة التي تدور في فلكها، ويؤازره في ذلك التدريب التربوي (والذي هو نظرياً جزء من الإشراف التربوي في الواقع وإنما انتزع منه «إداريا»)، بيد أن المشكلة التي نعيشها اليوم أن الإشراف التربوي نفسه بحاجة إلى الإنقاذ.. ففي مرحلة مضت كان الإشراف التربوي يئن من مشكلات منها ما يلي: فهم أسس الإشراف وطرائقه سواء التقليدية منها أو الحديثة، وعدم توفير المكان المناسب لعمل المشرف التربوي أو الأدوات المساعدة، والأهم من ذلك كله أنه كان يئن من عدم الإقبال عليه من المعلمين المتميزين لخلوه من المرغبات الوظيفية فهو جهد مختلف عن التدريس إذ كان المشرف يمارس فيه أحياناً أدواراً إدارية بحتة في كثير من الأحيان كما أن العمل الميداني يكلفه مصاريف إضافية في إرهاق سيارته وصرف وقودها على مشاوير بعيدة لم يكن يقصدها وهو معلم بينما لا يتلقى إزاء ذلك أي تعويض مالي، في الجانب الآخر تستنزف طاقته وجهده اللجانُ التي يشترك فيها لأنشطة جديدة قد يكون لها بعض قيمة وقد لا تكون سوى مبادرت براقة تهدف إلى الاستعراض (show off) لإدارة التعليم التي يعمل بها أو ربما للوزارة ذاتها وتأخذه في نفس الوقت بعيداً عن المادة وقضايا التدريس. وهذه المظاهر أدت إلى ابتعاد المعلم المتميز عن الإشراف التربوي إذ يرى نفسه بين طلابه يعايش مادته ويمارس مهنته المحببة لنفسه «التدريس» دون أن ينقطع عنها أفضل له من تلك التشويشات المزعجة، الأمر الذي ترتب عليه أن هذه المهام احتلتها فئة من المعلمين يطمحون إلى الظهور والحصول على الرتبة الاجتماعية من خلال دورهم الوظيفي في بيئة العمل، هل يستطيع هؤلاء اليوم تحقيق الرؤية التي قدمت بها آنفاً لاستكمال رحلة الجودة المعرفية والمهارية للمعلم المستجد من خلال ما يقدم على رأس العمل؟ هذا أمر مشكوك فيه، ولذلك أدعو الوزارة أن تستكمل جهدها الطيب في تمهيد طريق الجودة بواسطة الاختبارات من خلال الالتفات الجاد لهذا المجال المهم لتبدأ مشروعاً وطنياً قوياً وشاملاً للارتقاء بالإشراف التربوي سواء فيما يتعلق بتدريب وتطوير كوادره الحالية (بدءاً من قياداته) أو ما يتعلق باختيار وترشيح العاملين فيه، أو توفير الموارد التي يحتاجها العاملون فيه، وقبل ذلك كله وضع إطار تنظيمي لهذه المهمة الوظيفية يتناسب مع ما تحمله من تنوع في العمل وعمق في المعرفة وما يحمله أصحابها من قيمة خبراتية ستنعكس على الأداء وتنتشر منفعتها على كل المؤسسة التعليمية، فيشمل هذا الإطار أول ما يشمل الحوافز المشجعة لهذه الفئة على العطاء ومواصلة تطوير ذاتها لتتمكن من تقديم أفضل الممارسات العالمية لمعلمينا ومعلماتنا، بدون ذلك فلا يجب أن نتصور أن المعلمين «وحدهم» سينهضون وينطلقون، لابد من فريق نخبوي وراءهم يقودهم إلى القمة، فهل تطمح وزارتنا في القمة يا ترى؟
** **
- مدير عام تعليم سابقاً